إعداد نبيل خرشي دكتور في الحقوق و مهتم بقضايا الإعلام و التربية *** إن الحديث عن تداعيات أزمة جائحة كورونا على صناعة الصحافة و الاعلام يمكن مقاربته من زوايا متعددة .ويكتسي هذا الموضوع أهمية كبيرة ليس فقط لأنه محط نقاش عمومي و مهني و بحثي ، بل إن القيام بهذا التحليل يعد فرصة مواتية لتعميق النقاش حول قضايا كبرى تعيشها الممارسة الصحافية على المستوى الدولي و العربي .
لكن معالجة هذا الموضوع تتنوع بحسب طبيعة مجال التدخل في المنظومة الاعلامية ككل ، حيث يمكن الحديث عن تأثيرات الأزمة على اقتصاد الاعلام وعلى سوق الإشهار، ومصير الصحافة الورقية ، وعلى ممارسات استهلاك الوسائط الاعلامية ط والاعتماد على الأخبار والثقة فيها في سياق الأزمات ، واستراتيجيات التطوير و التحديث في مجالات التغطية و التحرير والتسويق أو و ولوج التكنولوجية الرقمية ووضع طرق مبتكرة للعمل عن بُعد. إلا أننا نسجل كمتتبعين للشأن الإعلامي ان هناك انعكاساتايجابية للجائحة ، كما ان تداعيات سلبية تلقي بظلالهاعلى المنظومة الاعلامية إقليميا و دوليا . فماهي أهم الانعكاسات
الايجابية للظاهرة الفيروسية على الصحافة العالمية ؟ و كيف أثرت الجائحة سلبيا على صناعة الصحافة و الميديا ؟
الانعكاسات الايجابية للظاهرة الفيروسية على صناعة المنتوج الاعلامي :
لقد أدت جائحة كورونا إلى طفرة إخبارية لا مثيل لها في الصحافة ، و شكل هذا الوضع فرصة لمؤسسات الإعلام لتطوير منتجات صحفية جديدة وإعادة التفكير في انماط أخرى من الإعلام . ويتجسد ذلك في مضامين متعددة ومتنوعة تعالج مقتضيات المقاربات التحريرية في سياق أزمة كورونا على غرار الحديث عن واجب الإخبار، والابتعاد عن الأسلوب التراجيدي المرتبط بمخاطر الجائحة ، اي معالجة الظاهرة الفيروسية دون افراط او تفريط على أساس انفتاح غرف الأخبار على الجمهور.
فعلى صعيد الاعلام الغربي ، يمكن القول ان هذا النموذج التفاعلي اصبح سمة غالبة على السياسة التحريرية لمختلف المنابر الاعلامية من خلال تطوير العديد من المؤسسات العالمية لخدمة البث او التدوين الصوتي او ما يسمى ب ” البودكاست”، كما اصبحت نشرات الاخبار تقدم من المنزل وبشكل تفاعلي و مغاير للقالب التقليدي للنشرات الرسمية . وثمة موقف لدى المهنيين يرى بأن أزمة كورونا ستؤدي لا محالة إلى تأثيرات حاسمة بشأن تنظيم العمل الصحفي في غرف الأخبار وتطوير ما يُسمَّى بغرف” الأخبار الموزعة ” التي طورها تون تيرويناروالتي تعتبر منتوجا اعلاميا حديثا ، حيث تقوم على أساليب العمل الموزعة وثقافة تنظيميةشبكية إضافة إلى التدريب الموزع. كما أن لهذه الالية الاخبارية الجديدة مزايا عدة : كالاقتصاد في تكاليف إدارة غرف الأخبار ، والاسهام في تطوير أشكال جديدة من التفاعل مع الجمهور وجمع الأخبار من مواقع التواصل الاجتماعي ، ووضع آليات جديدة لجمع المعلومات و قياس مدى صحتها والبحث
عن مصادرها .
ولا شك أن ” التفسيرات” تمثِّل أكثر الأجناس الصحفية التي استخدمتها الصحافةالعالمية في خضم الجائحة ، من قبيل الدليل الذي أصدرته جريدة ” البلاد ” الاسبانية “الباييس”، ويتضمن كل ما يجب أن يعرفه القارئ عن الجائحة مع قسم خاص بأسئلة القرَّاء. بل إن موقع “الغارديان” أنشأ قسمًا خاصًّا لتحليلالظاهرة الفيروسية يتضمن تقارير تفسيرية و بيانات وخرائط تفاعلية وفيديوهات تحرّ و تحقيق ٍ. وهي على نحو ما مثال يحتدى به لما يمكن أن تقوم به الصحافة في وقت الأزمات و توفير الأرضية المعرفية الضرورية للمستهلك حتى يفهم بنفسه الأحداث كقارئ ناضج .
إلا أن هذا ” الخطاب التفكُّري” للصحافة في الحالة العربية، عرف ظهورا محدودا جدا بسبب ضعف الحريات الصحفية في عديد من الدول العربية التي تقلِّص من فرص النقاش في الصحافة وفي أدوارها وقيمتها التحريرية. كما أنمحدودية الحريات الصحفيةتضعف من انفتاح غرف الأخبار على الجمهور ومشاغله والتفاعل والحوار معه؛ فالصحافة في العالم العربي لم تطوِّر نموذجًا تفاعليًّا مع الجمهور باستثناء البعض من هذه الدول التي تحاول قدر المستطاع تعزيز الحريات الاعلامية خاصة في السياق الجديد الذي فرضته جائحة كورونا الذي ادى الى انعكاسات متعددة ومتنوعة منها ما يشمل المادة الإخبارية بتخصيص “جزء أكبر من مساحة الوقت للإخبار”؛ ما يعني زيادة وتيرة العمل الملقى على عاتق قسم الأخبار فيها. كما أن بعض المؤسسات “اغتنمت فرصة الحجر الصحي من أجل إعادة الهيكلة” أو “التفكير بجدية في مستقبلهابحيث اكيد انه لن يصبح للمقراوالأستوديواولقسم التحرير ضرورة ملحة ، مما يتيحإمكانيةتطوير وسائط إلكترونية تحل محلها . وقداعتمد بعض القنوات التليفزيونية العربية مقاربات جديدة في إعداد البرامج وبثها من المنزل، كما تعاظم استخدام طريقة الاستضافة عن بُع
د عبر السكايب في الإذاعات والقنوات التليفزيونية على غرار قناة ميددي 1 تيفي المغربية في برنامحFBM المواجهة . بعد أن كان الظيوف يحضرون الى البلاطو التصويري .
إلا أنالانتاج الاعلامي في العالم العربي، في ظل الازمة و خلافا لبعض النماذج القليلة جدا ، كانت مقارباتهمحدودة جدًّا في مستوى تطوير منتجات تحريرية خاصة بالأزمة لأسباب عديدة منها ضعففي مستوى تحديث الميديا في العالم العربي بما في ذلك الصحافة الرقمية التي تعتمد في أغلب الأحيان على المضامين النصية. وفي هذا الإطار، فإن استخدامات أساليب الصحافة التفسيرية وصحافة التحري وصحافة البيانات وتقنية البودكاست لا تزال محدودة جدًّا في الاعلام العربي باستثناء بعض النماذج الرائدة في هذا المحال كقناة الجزيرة على سبيل المثال . كما أن التزام مؤسسات الميديا وغرف الأخبار في كثير من الدول العربية بالخط التحريري الذي تضعه الحكومات عبر إرشادات وتعليمات وزارات الإعلام اصبح عائقا أمام الابتكار التحريري.
التأثيرات السلبية للجائحة .
يرى الباحثون أن المقاربة الأسلم للتفكير في أزمة كورونا وانعكاساتها على صناعة الميديا، في مختلف السياقات سواء أكانت غربية او عربية، وإِنْ اختلفت
مظاهر هذه الأزمة، تتمثَّل في النظر إليها باعتبارها كاشفة لأزمات سابقة و عميقة وهيكلية و ذات بُعد نسقي. ويتمثل هذا البعد النسقي للأزمة في عدة مستويات، منها: انهيار بيئة الأخبار الذي على مستوى انتشار الأخبار الكاذبة بسبب وسائل التواصل الاجتماعيالتي تسهم في توسيع قدرات المواطن ” الهش فكريا ” على إشاعة الأكاذيب وعلى الدعاية واستحواذ المنصات الاجتماعية على مسالك توزيع المعلومات وعلى الإعلان الرقمي .
إن المشكل الحقيقي الذي يشغل بال مهنيي القطاع الاعلامي في هذه الفترة الصعبة من تاريخ الاعلام بشكل عام ، هو مشكل التمويل، حيث تشير تقارير دولية الى أن تراجع مداخيل الإعلانات أدى إلى تأثيرات خطرة، خاصة على المجلات الأسبوعية التي تمثِّل صحافة بديلة عن الصحافة السائدة الإخبارية ، مما سيدفع بجزء من المجلات الإخبارية للتوقف عن الصدور. وتشمل التأثيرات السلبية أيضًا المجموعات الاقتصادية الكبرى في مجال الميديا على غرار “غانيت” الأمريكية التي تملك 200 يومية ، والتي أعلنت عن إجراءات تقشفية كبيرة .وتفيد هذه التقارير كذلك أن جائحة كورونا سيكون لها تأثير عظيم على مداخيل الاشهار وبالتالي على حركة إنتاج المضامين مما سيؤدي الى تسريح الموظفين والتأخير في سداد الأجور وتراجع في مستوى الأداء، وقد تنجو من هذه الأزمة المؤسسات غير الربحية التي تحصل على دعم من المنظمات الدولية. كم أن الصحافة الورقية هي القطاع الذي سيتأثر أكثر بالأزمة تليها الإذاعة والقنوات التليفزيونية الخاصة بسبب نقص الإشهار و كذلك غياب الدعم الحكومي. كما سيتعزَّز الاتجاه نحو الصحافة الإلكترونية التي أصبحت الوجهة الأولى للجميع من جمهور ومعلنين ؛فمثلا في تونس و المغرب فالصحافة المطبوعة ربما ستندثربسبب تراجع الموارد الإشهارية دون تطوير مصادر دخل بديلة، والتي أضحت تشكِّل تهديدا حقيقيا لحياة هذه الوسائل الإعلامية، خاصة على صعيد قطاع الصحافة الورقية الذي هو تهاوى بشكل ملحوظ .
أما في بعض البلدان العربية الأخرى، فقد تم إيقاف توزيع الصحف الورقية تمامًا واستبدالها نسخ رقمية في شكل ملفات “بي دي إف ” . وفي بعض الدول الأخرى تم اقتراح إحداث منصة رقمية لتجميع مواد الصحافة وبثها بشتى الوسائل المختلفة مع إيقاف المحتوى المجاني على الإنترنت أو في مواقع التواصل الاجتماعي، على عكس المؤسسات الصحفية الأوروبية والأميركية التي استغلت هذه الأزمة لتطوير استراتيجيات متعددة لتطوير الاشتراكات واستقطاب جمهور جديد لمضامينها الرقمية المدفوعة.
إن أزمة كورونا قد كشفت عن عجز ” المؤسسات الاعلامية “على مسايرة الضربات الموجعة التي تتلقاها يوما عن يوم و ذلك بسبب القدرات التحريرية المحدودة و القاصرة عن تطوير الأشكال الصحفية الحديثة كالصحافة التفسيرية و صحافة التحري أو المضامين الرقمية في إطار ما يسمى التحول الرقمي. فمؤسسات الاعلام العمومية تقع في معظمها تحت سيطرة الحكومات والدول كما أن مضامينها الإخبارية غير مبتكرة. أما الإعلام الخاص فموارده المحدودة لا تسمح لهبعصرنة بنياته التكنولوجية أو منصات التوزيع كما لا تتوفر لديهالموارد المالية والبشرية لتطوير منصات إلكترونية ذات كلفة عالية من جهة الموارد الصحفية التكنولوجية.
ويبدو بالنظر إلى تأثيرات أزمة كورونا الأساسية والمتعلقة بتراجع الإنفاق الإعلاني وبالدروس المستخلصة من التجارب السابقة، أن الصحافة المستقلة وخاصة الورقية والرقمية على السواء التي تعتمد على الإعلان وعلى المبيعات الورقية، هي الأكثر تأثرًا بالركود الاقتصادي، خاصة أن الصحافة الرقمية لا تعتمد على استراتيجية المضمون بمقابل. أما الميديا العمومية (أو بالأحرى الحكومية) التي تموِّلها الدولة وتسيطر عليها الحكومة بشكل مباشر أو غير مباشر في أغلب الحالات فلن تتأثر بالأزمة بشكل مباشر.
هكذا، ستزيد الأزمة من ارتباط مؤسسات الاعلام بالحكومات و الاستسلام إلى المعلنين في كل الأحوال، فأزمة كورونا ستجعل من شروط ظهور صحافة الجودة وتطورها أكثر صعوبة.
خلاصة
إن الاستراتيجيات الممانعة للأزمة تتنوع بتنوع الاشخاص المتدخلين في المنظومة الاعلامية سواء بشكل مباشر او غير مباشر ، فهناك من يرى أن قطاعات إعلامية بعينها لن تستعيد عافيتها حتى وإن انكشفت الازمة . كما أن عودة النمو الاقتصادي تدريجيا لا يعني بالضرورة عودة العمل الاعلامي الى حياته الطبيعية ؛ إذ من الصعب أن يعود القارئ إلى الصحافة الورقية بعدما ألف المواقع الرقمية و استأنس بها .إن من أهم الحلولالمقترحة لتجاوز الازمة إمكانية توجيه المؤسسات الاقتصادية لجزء من إعلاناتها لصالح الصحافة المسؤولة و الجيدة .ويمكن كذلك للتمويل بواسطة القرَّاء ان يشكل بديلا مهما للخروج من الازمة، الا أنهذا الخيار من شانه ان يقصي فئات مهمة من الجمهور بما أن ولوج هذه المواقع المؤدى عنها ليس في متناول كل القراء .كما أن تخصيص برامج لدعم القرَّاء للمؤسسات الاعلامية
والتمويل العمومي للصحافة يعتبران من اهم الحلول البديلة لتفادي انهيار بعض القطاعات الصحفية ، لأن غرف الأخبار يجب أن تكون مِلكًا للصحفيين والجماعات المحلية وأن تكون أيضًا مرآة لهذه الجماعات التي تخدمها والحل يتمثل في إنشاء مؤسسات صحفية غير ربحية ، و ذلك على غرار تجربة الحكومة الدنماركية مثلا التي دعمت صناعة الاعلام بـ25 مليون يورو. أما الحكومة الفرنسية فقد أعدت برنامجا لمساعدة الصحافة وقطاع الميديا ، مع اهتمام خاص بالمؤسسات التي يمكن أن تتعرض إلى الإفلاس ووضعت خطة موازية لمساعدة المؤسسات السمعية البصرية عبر تأخير دفع الضرائب إضافة إلى الترخيص لمحلات بيع الصحف.
ينبغي الاتفاق مسبقا على أن الصحافة ليست ممارسة فردية بل هي صياغة وممارسة جماعية ممأسسة تحتاج إلى مؤسسات قوية توفر
موارد عديدة للعمل الصحفي. فالصحافة الجيدة أكيد ان تكلفتها يجب ان تكون مرتفعة ، ان المشكل الحقيقي الذي يعاني منه إعلام اليوم مرتبط بالافتقاد لسياسات عمومية في المجال الاعلامي تقوم على تقوية القطاع الاعلامي العمومي والخاصة على حد سواء على أداء أدواره باعتبار أن استقلالية سلطة الاعلام تقوي الصرح الديمقراطي للدول .
إعداد نبيل خرشي دكتور في الحقوق و مهتم بقضايا الإعلام و التربية
المصدر : https://www.safinow.com/?p=12717
عذراً التعليقات مغلقة