بقلم يوسف بوغنيمي *** أضحى لقب ” الرايس ” يلخص صورة نمطية لكثير من مستشارينا ومنتخبينا الذين دخلوا عوالم السياسة من أبوابها الواسعة وهم لا يفقهون في علم السياسة سوى باب الجماعة والقيادة , حيث يرجع لهم الفضل في أن أصبح لساكنة القرى والمداشر رصيدا لغويا يغازلون عبره مستشاريهم الجماعيين بترديد عبارات “سعادة الرايس “.
و يفيد لقب “الرايس” في القاموس الجماعي المغربي , ذلك الكائن الانتخابي الذي فاز كمستشار في الانتخابات الجماعية , وأصبح أهل الدوار لا يجتمع لهم جمع على صينية شاي في الولائم والمأدبات والأعراس والمآثم إلا و” الرايس “قد تربع بين ظهرانيهم , ليحكي مغامراته الانتخابية ويشكو همومه الجماعية ويسرد علاقاته العنكبوتية التي تربطه برجالات المخزن بدءا بسعادة “القايد” مرورا بموظفي العمالة ، القيادة والجماعة وصولا الى “الشيوخ والمقدمية “
لازلت أتذكر جيدا كيف شق “الرايس” طريقه بثباث نحو مجلس الجماعة و حصل لقب سعادة” الرايس” وصار حديث الساعة منذ أن دخل عالم السياسة ونجح في “تحفيظ ” دائرته الانتخابية بعد فوزه بولايتين جماعيتين متتاليتن …ولم يعد للقرويين حديث إلا من قبيل “الرايس جا… الرايس مشا … الرايس قال… “
” الرايس” بفضله أصبح أهل الدوار يطلعون على جديد الجماعة ومشاريعها المستقبلية وصراعاتها الطاحنة بين أغلبية ومعارضة , قرويون أصبحوا يؤمنون “بالرايس” أكثر من رئيس حكومة بلدهم وأضحوا يتقون بوعوده و يتبركون بإطلالته , وفي معتقدهم بأن الرايس صاحب عصا موسى الذي يضرب بها على طاولة اجتماعاته بالجماعة لينقشع ضوء “بولة 90” أو لينهمر الماء من صنابير المكتب الوطني للماء والكهرباء المتثبتة مؤخرا في قلب الدوار , في اعتقادهم “الرايس هو لي جاب ليهم الما و الضو …و جاب ليهم الطريق والطوموبيل ديال المدرسة وقبلها سور المدرسة الابتدائية و النطفية ” فلا علم لديهم بالبرامج الوطنية التنموية, كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلق صاحب الجلالة ارهاصاتها الأولى وثبثت لافتتها على سيارة النقل المدرسي التي تقل أطفالهم صباح مساء , ولا بالبرنامج الوطني للكهربة القروية المعروف اختصارا ب PERG والذي تضخ فيه الملايير والذي تم تسريع وتيرته منذ سنة 1999 باستهداف 1500 قرية سنويا بمعدل 150.000 مسكن وبلغ الى غاية متم سنة 2013 نسبة وطنية مهمة للكهربة القروية وصلت عتبة 98./ بالمائة بمجموع تراب المملكة ,قرويون لا قاموس لديهم للبرامج الوطنية للطرق القروية سواء الأول ،الثاني أوالثالث والذي يهدف الى توسيع عملية فك العزلة على دواوير ومداشر العالم القروي و غايته اعداد متوازن للمجال عبر تقوية التضامن الوطني وتقليص الفوارق الجهوية , بتمويل تم رصده من صندوق التمويل الطرقي الذي تم انشاؤه سنة 2004 و الذي يستهدف الجماعات القروية الفقيرة , والأهم من ذلك أن الفضل يرجع في فك تلك العزلة عن دوار “الرايس ” الى دافعي الضرائب من المغاربة والتي تستخلص فواتيرها من جيوبهم .
“الرايس” أصبح الآمر الناهي بالدوار وعبد طريقه الى الجماعة، أن اشترى ود أعيان الدوار وشيوخه بعد أن وأد الرايس العداوة , شهورا قليلة قبل تقدمه للانتخابات الجماعية ونجح في استقطاب غريمه في الأيام الخوالي “خالي الطيفور” زعيم تيار المعارضة وجعله وزيرا له بالدوار ونصبه بدون حقيبة وأصبح لا يعصي له أمرا وصار نديمه في المجالس والمأدبات والمواسم , حيث دفنا معا دعاوى سنوات قادتهما ألى محاكم المملكة ، هكذا نفض الدوار الغبار عليه بعدما أجمع على مبايعة الرايس انتخابيا .
” الرايس” لديه بروفايل مستشار جماعي محنك ,بالرغم أنه لم يلج قط حجرات المدرسة العمومية والذي في تصوري أكاد أجزم بأنه لو توفرت له الشهادة الابتدائية و”الكرمومة” بحجم الرايس الحالي القادم من البيضاء , وهو الحال بالنسبة لكثيرين من رؤساء جماعاتنا الترابية , الذين لا تجمعهم بجماعاتهم إلا خطوط هواتفهم النقالة ودورات الحساب المالي و الاداري , وطبعا سيارة الجماعة التي يمتطونها بجيمها الحمراء والتي لا تعكس موديلاتها الراقية تصنيف الجماعات التي يرأسونها ضمن الفقيرة ترابيا , سيارات تجوب شوارع عاصمتي المغرب الادارية والاقتصادية , يعتليها رؤساء جماعات يسيرون مشاريعهم الشخصية ومآربهم العائلية ليزدادهم ثقل تدبير جماعات قروية مكلومة .
لاشك ان توفرت الظروف المواتية “للرايس” ستجعله لا محالة يتربع على عرش الجماعة لأنه مارس السياسة بذكاء وحصد خيرات الجماعة بدهاء , حيث غير “الكارو” الذي كان يركبه صباح مساء متوجها من الدوار الى “الفيلاج “أو الى الأسواق الأسبوعية ناشدا الرزق , لكنه أحجم بعد حين عن ركوب “الكارو” بثنائييه من البغال وتركه في عهدة أكبر اخوته وديعة , ليقتنى دراجة نارية من نوع “موتوبيكان” ثم ليرتقي به المقام بأن اقتنى سيارة من نوع “ار 18 R” تليق بالمقام ، ولم يهجر الرايس “الكارو” فقط ولكن هجر تجارته كذلك في بيع “الصنادل ” الأحذية البلاستيكية وتفرغ لممارسة السياسة .
“الرايس” أصبحت له خاتم سليمان و تبث موطئ قدم له بعالم السياسة الجماعية , وصار يمازح موظفي القيادة والجماعة ويبسط معهم , وأضحى مقصدا لقضاء الأغراض الادارية من أوراق بطاقة التعريف الوطنية الى وثائق كناش الحالة المدنية و تدوين الزيادات والتشطيب على الوفيات و مهاتفة سائق سيارة الاسعاف الجماعية وجلبها الى الدوار لنقل الحوامل من و الى المستشفى الاقليمي محمد الخامس , لتضع ذات الأحمال حملها , وحتى لإغاثة من لسعته عقارب فصل الصيف ولم ينفع معه نفث غاز البوتان وتشريح موضع السم “بالرازوار” , لم يقتصر دور الرايس على هذا بل طالت يداه لتجلب خيمة “خزانة ” الجماعة لنصبها في الأفراح والمآثم في عقر دار الدوار وترؤس مراسيم الدفن و التباهي بدفع “الغرامة” في الأعراس والتهليل بقيمتها المالية أمام القبيلة وتسخير أناس يحسنون قرع الطبل والغيطة , لتلاوة محاسن الرايس والتذكير بعطاياه وترديد عبارات “قال ليكم الرايس ….والتلويح بالزرقة والقرفية “.
هكذا “الرايس” أصبح مرجعا في عالم السياسة لأنه فطن بأن ممارسة السياسة بالدوار تقود الى كرسي الجماعة , وهكذا سخر الجرار وهو الآلة الوحيدة التي كان يتوفر عليها رفقة اخوته بعد وفاة والده وأبدع في تحويل نوعه “الفيركيسون “من آلة ميكانيكية تمارس الحرث الى ماكينة انتخابية تسخر لفعل السياسة , عبراستثمار عربة الجرار لنقل أهل الدوار من والى السوق الأسبوعي , حاملين القصب والأعمدة والأكياس وهلما جرا …وليدربهم على ركوب عربة الجرار عشية الانتخابات الجماعية حينما تتدفق أمواجه البشرية ساعة قبل اغلاق المكاتب القروية لتحدث التوازن في نسب المشاركة الانتخابية وتنقذها من نسب في الحضيض , فلاحون صغار يسر لهم “الرايس” الحرث من دار الحرث الى دار الحصاد , ويمهلهم الى حين جني الثمار والحبوب كل حسب إمكاناته, “الرايس” يمارس السياسة والانتخابات بشكل فطري طيلة السنة , كما طالت حكمته قطاع التجارة بفتح دكان بالدوار انتدب أحد أفراد عائلته الممتدة للسهر عليه, ويسر باب “الكريدي” في حدود المعقول و لأن ” للرايس” حس تجاري ومنطق براغماتي فتقييمه للربح والخسارة قائم لا محالة , وهامش الربح بالنسبة اليه خط أحمر ,متى تجاوزت “زرقالاف”بلغة “بوزبال” ففاتورتك تنتظر الأداء وكناش الكريدي موقوف مع وقف التنفيذ , الدكان ليس فقط وسيلة لتقريب المواد الغذائية من ناخبي “الرايس” على غرار سياسة الدولة بتقريب الادارة من المواطنين, ولكنه أيضا محطة لإذاعة اخبار “الرايس ” والتهليل بانجازاته , الرايس بحنكته السياسية استهدف فئة الشباب بمنحهم فرصة مشاهدة مباريات كرة القدم بمحاذاة الدكان , فإذا كانت الدول المتحضرة تتباهى بنصبها لشاشاتها العملاقة بالساحات العامة ابان التظاهرات الدولية التي تشارك فيها منتخاباتها فتلفزة “الرايس” رائدة , وهي معلقة ومنتصبة باستمرار لنقل فرجة البطولة الوطنية على امتداد السنة .
ولم يبق “للرايس” سوى أن يترأس جمعية مدنية لتوسيع دائرة أنشطته الاجتماعية والخيرية, ويسعى الى شراء ولي صالح لإقامة موسم مليح ونصب “الخزاين” وذبح الذبائح ,على غرار بني جلدته وان لم يسعفه الحظ فموسم الانتخابات على الأبواب وهي فرصة للتبوريدة والرش واللغط و”التحياح …”
هكذا بسط سعادة “الرايس” وأمثاله كثيرون وسائل التحكم في السياسة بنكهة الجماعة , وابتكروا أساليب السعي الى تحقيق التوازنات الماكروانتخابوية انطلاقا من الدوار ومنهم من وصل حدود البرلمان .
المصدر : https://www.safinow.com/?p=15092
عذراً التعليقات مغلقة