على بعد حوالي 26 كليومترا شمال شرق آسفي، وعبر الطريق الجهوية المفضية إلى سيدي بنور، ما زالت بقايا وأطلال قصبة القائد عيسى بنعمر، التي تعد واحدة من أبرز المعالم التاريخية التي تختزل جانبا مهما من التاريخ القايدي بعبدة، تركت لمصيرها تقاوم الزمن وتنتظر من يحقق أمنية المقطع العيطي القائل ” دار السي عيسى كالوا خلات/ مقابلة المعاشات/ المخزن يجددها…”.
إنجاز: عزيز المجدوب (موفد “الصباح” إلى آسفي)
شاءت الصدفة أن تكون زيارتنا قصبة القائد عيسى بن عمر، رفقة الشيخ جمال الزرهوني أحد رموز فن العيطة الحصباوية الذي يميز منطقة عبدة ويشكل جزءا من هويتها. على امتداد الطريق الفاصلة بين آسفي والجماعة القروية التي تحمل اسم “دار السي عيسى” وتحتضن فوق ترابها بقايا قصبته، لم يتوقف الشيخ الزرهوني عن الحديث بحماس عن الرجل الذي يحرص أغلب أهل عبدة على نطق اسمه مسبوقا بعبارة “السي” تقديرا له، وكأن سلطويته ما زالت مورثة في لاشعور سكان آسفي وأحوازها.
كان الزرهوني يستعيد، وهو يقود السيارة التي تقلنا إلى موقع القصبة، حكاية عيطة “خربوشة” التي ارتبطت باسم الشيخة “حادة الزيدية” التي واجهت القائد عيسى بن عمر، في أوج سلطته خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، احتجاجا على ما فعله بأبناء قبيلتها “أولاد زيد” الذين انتفضوا في وجه القائد، ما جعله يمعن في التنكيل بهم، لتظل فظاعات بن عمر في زجر القبيلة المتمردة موثقة في شذرات عيطية، ما زالت تردد إلى يومنا هذا.
ديربي الزرهوني وولد الصوبة
على الطريق المتربة التي تفضي من مركز الجماعة القروية “دار السي عيسى” إلى القصبة، تبدت على الجنبات مظاهر البؤس الذي تغرق فيه معظم المناطق القروية والتي تترك مجالسها المنتخبة الحبل على غارب الطبيعة بمفهومها الوحشي والبدائي دون أدنى تدخل يوحي أن هناك مجهودا يبذل.
كانت المفاجأة أن شيخا آخر كان في انتظارنا ويتعلق الأمر بالفنان الشعبي محمد ولد الصوبة، الذي ركن سيارته قريبا من موقع القصبة، وكان برفقته طاقم تصوير لطلبة تابعين لأحد معاهد السينما بمراكش، بصدد إعداد وثائقي عن “العيطة بآسفي” وكانت قصبة القائد بن عمر إحدى المعالم التي يصطدمون باسمها في متون العيطة الحصباوية، فجاؤوا لتفقدها ميدانيا.
اللقاء بين الشيخين الزرهوني وولد الصوبة على صعيد أرض كانت منذ نهاية القرن التاسع عشر موطئا لشيوخ آخرين ساروا فوق الأديم نفسه، إما ذاهبين لإحياء مسامرات القائد العبدي، أو مارين من جانب قصبته ومأخوذين بعظمة بنيانها، لم يكن ليمر هذا اللقاء دون أن يحرك فيهما حنينا عيطيا إلى مرحلة وشخصية ظلت طيلة أزيد من قرن ونصف ملهمة لشيوخ العيطة وشيخاتها وناظميها.
امتشق الشيخ الزرهوني وتار “السويسي” الشهير بنغماته الحادة، من صندوق سيارته، فيما كان الشيخ “ولد الصوبة” على أهبة الاستعداد للمواجهة بكمنجة “الألطو”، قبل أن يشرعا في تسوية أوتار آلتيهما، ليمزق صوت الموسيقى الصمت الثقيل الذي كان يجلل المكان والخرائب المحيطة بقصبة عيسى بن عمر، وتتناغم “جرة” ولد الصوبة، مع نقرات وتار الزرهوني في تقسيم بديع إيذانا بعودة الحياة من جديد، ولو لحظات مسترجعة، بين أطلال تبكي ماضيها التليد بأنغام الحصبة المغرقة في الحزن، والنواح على من رحلوا ومن مروا من هنا.
عيطة في حضرة الضريح
بعد تقسيم الافتتاح وتحية المكان، اندفع الشيخان الزرهوني وولد الصوبة نحو بقايا القصبة ونبات الصبار وأشواكه المحيطة بأسوارها العالية، وكانا معا معتادين على التردد على البناية بين الفينة والأخرى، ما جعلهما يقومان بدور المرشد الخبير بما تختزنه خرائبها، بدءا ببقايا المحكمة التي كان يجري فيها القائد أحكامه على المحتكمين إليه أو من يقع تحت يديه من معارضين ومتمردين.
أقواس وزخارف وزليج أرضي زحفت الأتربة والحجارة على معظمه من فرط الإهمال، فيما فتح سقف ما تبقى من المحكمة على السماء بعد أن انهار معظمه، وظلت الآيات القرآنية التي كانت تزين الجنبات العليا للجدران مغطاة بالرطوبة وتعاقب هطول الأمطار وأشعة الشمس عليها، حتى بهتت حروفها واختفى جلها.
قبل أن نغادر بناية المحكمة الملحقة بالقصبة، استوقفنا شخص كان يزور البناية بالصدفة، وقد تعرف على الشيخين الزرهوني وولد الصوبة، وشرع يستعيد معهما بحديث نوستالجي ماضي هذه القصبة، التي قال إنه يحرص على زيارتها بين الفينة والأخرى، رغم ما في الأمر من مجازفة بحكم أن المكان لم يعد آمنا، بعد أن صار مرتعا للصوص الذي يتربصون بزائريها الذين يصر بعضهم على تفقد أطلالها، رغم أن لا جهة فكرت في استثمار هذا الشغف الخاص بهذه البناية وإنقاذ ما تبقى منها، لتكون رهن إشارتها زوارها.
على بعد أمتار قليلة من الأسوار العالية للقصبة، وفي ركن جانبي منها انتصبت دار تبدو حديثة البناء، وبجوارها ضريح بحائط قصير مطلي بالجير الأبيض، مهمل لا أحد قد يصدق أنه يضم رفات القائد الذي كانت ترتعد له فرائص أهل المنطقة وكان سلطانا مصغرا فيها. تتوسطه شجرة تين ورَدَ ذكرها في بعض الحبّات العيطية التي تقول “تحت الكرمة تفرّق الديوان”.
استعاد الشيخ جمال الزرهوني هذه العبارة وهو يشير إلى “الكرمة” التي كانت شاهدة على محطات مهمة من تاريخ المنطقة، قبل أن تظل أنيسة القائد الذي كان بطل هذه الأحداث في رقدته الأخيرة منذ سنة 1924، إذ قسم الضريح إلى قسمين، فناء يضم الشجرة وعند سفحها يوجد قبر منسوب لقاض كانت تحت إمرة بن عمر، وغرفة داخلية تضم القبر الذي اختار أبناؤه نقله إليه أياما قليلة بعد وفاته بسلا حيث قضى سنواته الأخيرة تحت الإقامة الجبرية.
وفي غمرة الصمت الذي فرضه جو الموت الذي يرفرف على المكان، لم يقاوم الشيخ ولد الصوبة إحساسا عارما اجتاحه وهو يتأمل قبر القائد الذي طالما ردد اسمه وهو يستعيد متون عيوط الحصبة، ليرفعه كمنجته التي لم تفارقه خلال جولتنا بمرافق القصبة، ويسحب القوس صادحا المقطع الأول من عيطة خربوشة الذي يقول “خربوشة زروالة والكريدة والحمرا/ أنتِ غدرتِ ألغدر عيب على ربي/الزمان يلوح أهياوين/ أمكواني الفراق صعيب أسيدي/ موالفاك أقيدي علاّمي/ أنت العلام موالفاك أقايدي…” قبل أن ينخرط معه الزرهوني في الأداء ضمن مشهد مؤثر حرك الدمع في مآقيهما، إذ رغم ترددهما على ضريح القائد دائما، إلا أنها المرة الأولى التي يستسلمان فيها لرغبة دفينة للغناء في حضرته ولو ميتا.
بوكس: قصبة… أم قصر سلطاني مصغر
يقول الباحث مصطفى افنيتير إن قصبة القائد عيسى بن عمر كانت تقوم بوظائف عديدة، فإلى جانب أنها قلعة محصنة للدفاع عن أسرة القائد من أي اعتداء محتمل من قبل القبيلة، فهي كذلك قوية تامة المرافق كالبلد الصغير، وهو ما يتبين من خلال مرافقها المتعددة.
ويضيف فنيتير في كتابه “عيسى بن عمر قائد عبدة 1879 – 1914” أن القصبة تضم مرافق للسكن والإقامة والمجال الذي يغطي حوالي ثلثي القصبة، وهو عبارة عن دور لسكنى أبناء القائد عيسى بن عمر، وأبناء أخيه محمد بن عمر وباقي أفراد أسرته، وقدرت هذه الدور بما يفوق عشرين دارا، كانت كلها متوفرة على المستلزمات الضرورية للسكن.
ومن أهم هذه الدور دار القائد وهي الدار المخصصة لحريمه، وتتكون من ثلاث طبقات على النمط الفاسي، وبالأسفل روض مربع به أربع قباب بها زليج ممتاز، وسقوفها الخشبية مزخرفة بالنقوش، وبوسط الدار نافورة تتدفق منها المياه، والطابق العلوي عبارة عن “مقصورة” بها غرفتان تطلان على ممتلكات القائد الشاسعة.
وكانت بالدار، يضيف الباحث نفسه نقلا عن مصادر قديمة، أجنحة مخصصة لاستقبال الضيوف وإقامة الولائم “يذبح يوميا بقرة واحدة وعشرين خروفا والمئات من الدجاج” حسب وصف الطبيب الفرنسي فريديك فيسجربير.
كما كانت القصبة مقرا رسميا لممارسة السلطة القيادية ومنها تصدر الأوامر والأحكام وقد اتخذ القائد محكمته داخل القصبة، وهي عبارة عن غرف ثلاث ما زالت بعض ملامحها واضحة، منها القاعة التي كان يجلس فيها القائد، وهي عبارة عن قاعة متسعة ومزلجة وسقفها مزخرف.
أما الأماكن المرتبطة بالمحاكمات والاعتقال، فتتوزع بين ما هو مخصص للاعتقال المؤقت أي “البنيّقة”، وبين الدهاليز المغلقة والمغطاة بسقف دائري ضيق ومظلم، يبلغ عددها خمسة، كان يطلق عليها اسم “البردوز”، وربما كانت تستعمل لحشد الخارجين عن طاعة القائد أو المحكوم عليهم بأقسى العقوبات.
ولا يخلو فضاء القصبة من مرافق دينية منها مسجد ما زالت بعض معالمه قائمة، وقد خضع لإعادة بناء خلال منتصف الثمانينات، قبل أن يغلق قبل بضع سنوات، ولعل هذا المسجد كانت يستعمل أيضا لتعليم أبناء القائد مبادئ القراءة وأصول الدين، إضافة إلى مقر للزاوية التيجانية ومقبرة خاصة.
ومن المرافق المهمة التي كانت تضمها القصبة، الإصطبلات الخاصة بتربية المواشي على اختلاف أنواعها، خاصة منها الخيول، إذ كانت اصطبلات القائد تضم حوالي أربعمائة حصان، فضلا عن خزائن التموين أو “المطامر” المخصصة لخزن الحبوب والتي كانت وحدها تكفي كل سكان منطقة عبدة.
كلاش عيطي
من النصوص المأثورة عن الشيخة حادة الزيدية الملقبة ب”خربوشة” ما كانت تهجو به القائد عيسى بن عمر الذي أباد قبيلتها وطرد من بقي منها، قبل أن يتعقبها أعوانه ويلقوا القبض عليها، لتلقى مصير غامضا اختلفت حوله الكتابات التي استعادت حكاية “خربوشة”، كما أنه من المحتمل جدا أن يكون هذا النص قد تعرض للتصرف فيه، بحكم التداول الشفوي له، وأضيفت لها أبيات تترجم المصير المأساوي الذي آل إليه قائد كان يصول ويجول بمنطقة عبدة ويحكمها بقبضة من حديد، أن تنقلب عليه الأمور وينتهي به المطاف منفيا في سلا.
وتقول الأبيات التي يتداولها الشيوخ على لسان حادة الزيدية خاصة بالصيغة التي غنتها الفنانة خديجة مركوم: “فينك أعويسة وفين الشان والمرشان/ تعديتي وخسرتي الخواطر وظنيتي القيادة على الدوام/ في أيامك الجيد مابقالو شان/ والرعواني زيدتيه القدام/ سير أعيسى بن عمر أوكال الجيفة/ ويا قتال خوتو ومحلل الحرام/ عمر الظالم ما يروح سالم/ وعمر العلفة ماتزيد بلا علام/ ورا حلفت الجمعة مع الثلاث يا عويسة فيك لا بقات/ أنا عبدة لعبدة/ ولسي عيسى لا/ نوضا نوضا حتا لبوكشور/ نوضا نوضا حتى دار السي قدور/ زيدو أولاد زيد راه الحال مازال بعيد/ آسعدية طلبي بوك علي إلى اوتيت سامح لي/ واخا قتلني واخا خلاني/ ماندوز بلادي راني زيدية/ على كلمة خرجت لبلاد واخرجت لحكام لا سلامة ليك آليام/ واخايت عليك آليام/ أيـــام القهرة والظلام/ فينك ياعويسة وفين الشان والمرشان/ حرقتي الغلة وسبيتي الكسيبة/ وسقتي النسا كيف لغنام/ ويتمت الصبيان بالعرّام…”
المصدر : https://www.safinow.com/?p=15161
عذراً التعليقات مغلقة