بقلم المصطفى العياطي المسناوي *** تعتبر صناعة الخزف أو صناعة الفخار واحدة من الصناعات المحلية التقلليدية ذات التمثيلية و التي اشتهرت بها مدينة أسفي منذ زمن طويل، باعتبارها من الصناعات التي احتلت مكانة مهمة في النسيج الاقتصادي والاجتماعي بالمدينة، وذلك ارتباطا بالتربة الطينية المتميزة التي تتوفر عليها بعض المناطق الموجودة داخل مجالها الحضري او تلك التي تنتشر بظهيرها . أ-صناعة الخزف بأسفي: لمحة تاريخية. فمن الناحية التاريخية ،نلاحظ سكوت المصادر العربية التقليدية عن ذكرها ،مما يجعل أمر تحديد تاريخ ظهور هذه الصنعة بأسفي أمرا صعبا للغاية، وإن كانت هناك بعض الشذرات القليلة غير المباشرة فهي لاتفي بالحاجة . و بالرغم من توفر المدينة على متحف وطني للخزف يضم على رفوفه عدة لقى خزفية، تعود لفترات قديمة ووسيطيه وحديثة. إلا أننا نرجح بأن هذه الصناعة محلية أو ربما ولجت أسفي منذ أقدم العصور. والدليل على ذلك تشابه تقنية الفخاريات التي صنعت في عهد الفينيقيين بطريقة بدائية وتلك التي استعملها الاسفيون القدامى والتي توجد منها بعض القطع بالمتحف المذكور. ويضاف الى ذلك أن استقرار الفخارين الاوائل بأسفي لم يكن ليحدث لولا وجود رواسب من الطين الاحمر على ضفتي وادي الشعبة الذي ينطلق من ينابيع تاكابروت مخترقا المدينة قاصدا المحيط الاطلسي كمصب له، علما أن مدينة أسفي قد استمدت اسمها أصلا من ذلك الوادي. فوحده المؤرخ محمد بن أحمد الكانوني العبدي(ولد عائشة) قد خص هذه الصناعة ببعض السطور حيث قال:”.. وهذه الصناعة أي الفخار من أكبر مميزات أسفي فلقد حازت فيه أجمل ذكر وأجل إكبار بوجود تربتها الطينية فسارت بذكر أوانيها الركبان وزينت بها المتاحف والبيوت، وكان لها في معارض الصناعة الاهلية أجمل التفات وأكبر اعتبار…وهي من الصناعات القديمة بأسفي، صرح بعض المؤرخين الافرنجيين بأنها وجدت بأسفي منذ الفينيقيين قبل الميلاد المسيحي بقرون…..” (1).إلا أن الكانوني زهد في تقديم مزيد من التفاصيل عن سر شهرة خزف أسفي خلال فترة الحماية الفرنسية، بعدما كانت على وشك الزوال جراء ما كان يعيشه الصناع من أوضاع بئيسة، حتى شاع آنذاك تداول المثل “فقير مثل أي خزفي”(2) بين الاسفيين .لم يذكر الفقيه الكانون أن الفضل في ذلك الانتعاش والازدهار يعود الى الجنرال الليوطي-شخصيا- الذي من فرط حبه وشغفه بهذه الصناعة ،عمل على استقدام المدعو بوجمعة العملي من الجزائر سنة 1918م والذي يعتبر العديد من الآسفين(3) باني نهضة وشهرة خزف أسفي . لقد استطاع هذا الجزائري القبائلي المولد، انطلاقا مما درسه بمدرسة الفنون الجميلة بالجزائر، ومما استفاده من تقنيات صناعة الاشكال والالوان أن يطور خزف اسفي ويحافظ على طابعه المحلي القديم الذي ساد خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، كما تعلم على يديه ثلة من “المعلمين” الذين حملوا بعده مشعل هذه الصنعة عبر الأجيال. بل وصل الامر الى حد أن الاسفيين أصبحوا منذ ذلك الحين يطلقون عل الخزف اسم العملي في إشارة رمزية و عفوية لتكريم ذلك الرجل وتخليد اسمه في تاريخ هذه الصناعة التقليدية. هذا وقد حمل اشعاع هذه الصنعة الاسفية الحماية الفرنسية على تصنيف “تل الفخارين” بأسفي كموقع تاريخي ينبغي العمل على حمايته وذلك بموجب ظهير مؤرخ في 20 جمادى الثانية1398ه الموافق ل 29 مارس سنة 1920م. ب-حضور الماء في مراحل صناعة الفخار: لابد من الاشارة الى ان الفخار هو نتيجة زواج طبيعي بين الماء والصلصال، فالصلصال ومنذ ملايين السنين يعتبر واحدا من المواد التي استعملها الانسان لأجل توفير حاجياته. والأسفيون عرف عنهم قديما أنهم كانوا من صناع الخوابي الكبيرة والقدور والاوعية من أجل حفظ ونقل المياه والفواكه الجافة والزيوت والقمح والسلع المختلفة التي كانت تنقل بحرا بواسطة السفن الى مختلف البلدان، انطلاقا من مرسى اسفي ،الذي عد من أوائل المراسي في شمال افريقيا… فالطين الأسفي هو عبارة مادة معدنية متميزة عن مثيلاثها بباقي الامكنة بالمغرب،ى فهي تتكون من مجموعة من المشتقات المعدنية بنسب مختلفة تجعل منه مادة سهلة التشكيل عنما تكون رطبة، وتكون صلبة جدا بعد إخضاعها للطهي.. لقد أتبتث الدراسات التي قامت بها احدى المختبرات الالمانية في يوليوز 1993م،( بأن الصيغة الكيماوية لطين أسفي المعروف محليا باسم “أمز وغن” هي(…….2ALO2,2SIO2,2H2O) (1)بمعنى أن هذا النوع من الطين يشتمل على عنصر الماء ضمن مكوناته الاصيلة. ومن ناحية أخرى ترتبط صناعة الفخار عموما و بأسفي خصوصا ارتباطا حتميا بالماء ، ولذلك فمن قبيل تحصيل حاصل ان نجد جميع المحترفات والورشات تتموضع بمحاذاة مصادر المادة الاولية: الطين والماء. فأغلب هذه المحترفات بأسفي تقع على ضفتي وادي الشعبة الشهير ،منبع الماء والطين معا ،حيث عرف هذا الفضاء قديما بانتشار الدواليب والسواني والينابيع المكشوفة وحتى الابار قليلة الغور. لقد كان الخزافون يجلبون المياه منها بواسطة نوع من الجرار تسمى”الكنبورة” يحملونها على الاكتاف او على ظهور الدواب، و يصبونها في صهاريج وأحواض مائية مختلفة الأحجام، بات معتادا ومألوفا وجودها جنبا الى جنب كل المحترفات والورشات الخزفية ، فما هي يا ترى وظائف هذه الصهاريج المائية الصغيرة؟ في البداية يتم جلب الطين من المقالع القريبة في شكل أحجار صلبة و ضخمة ،و بعد تنقيتها من الحجيرات الكلسية والشوائب والحصى الدقيقة التي تتسبب في تشقق الاواني اثناء عملية الطهي، يقوم العمال بغطس الأحجار الطينية في الاحواض والصهاريج بغية ترقيدها ويتم تحريكها بعمود يدعى “المهماز” إلى أن تمتص الماء جيدا ،ثم تعرض في خطوة ثانية على أشعة الشمس من أجل تجفيفها من هذه المياه ، وذلك بهدف تحويلها الى مادة لينة عبر عمليتي العجن والدلك. هكذا يبدو أن الطين في حالته الخامة ،يعتمد الفخارون على الماء كمادة وحيدة لتحليله وعجنه ودلكه. ولن يقف الاعتماد على الماء في هذه المرحلة فقط، فالماء ضروري حتى أثناء وضع ا الطين فوق الأسطوانة العليا المكونة للولب استعدادا لتشكيل الانية او الوعاء المراد صناعته ،حيث يقوم المعلم بتحريك اللولب بواسطة رجليه لتشرع الأسطوانة في الدوران متحكما في نفس الوقت بيديه في الشكل الموجود فوقها، و عن طريق هذه الحركات يتمكن من صنع الشكل المراد صنعه معتمدا في هذه العملية على الماء بالدرجة الأولى، وبعد الانتهاء تعرض الأشكال المصنوعة على أشعة الشمس قصد التجفيف حتى تأخذ قوتها وصلابتها، ثم يتم إدخالها إلى أفران من أجل طهيها تحت درجات حرارية جد مرتفعة تصل إلى 1200 درجة بالنسبة للأفران الكبيرة،و900 درجة بالنسبة للصغرى. هكذا بدا لنا أنه ،للتحكم اكثر في تطويع الطين و صناعة الفخار لابد من ترطيبه باستعمال الماء، ومن أجل الحصول على صلابته لابد من تجفيفه من الماء…انها مفارقة طبيعة وعجيبة….
المصدر : https://www.safinow.com/?p=16597
عذراً التعليقات مغلقة