الحقائق التاريخية والجغرافية لا يمكن أبدا طمسها أو التلاعب بها لأنها واقع لا يرتفع. جبل طارق جزء لا يتجزأ أيضا من التراب الإسباني، وإسبانيا تطالب البريطانيين باستمرار باستعادة هذا الثغر، ومن المؤكد أنه سيعود يوما إلى حضن الأرض الإسبانية مثلما ستعود سبتة ومليلية المحتلّتان. وسبتة ومليلية أبعد من إسبانيا أكثر مما يبعد جبل طارق عن بريطانيا. في جبل طارق ثمة جالية بريطانية غالبة وناطقة باللغة الإنجليزية وثقافة أنجلوسكسونية مسيطرة ومهيمنة. عندما تتجول في شوارع صخرة جبل طارق لن تشك أبدا للحظة واحدة أنك في الأراضي البريطانية على كافة الأصعدة معمارا ولغة وعادات وأعراقا وعلى كافة المستويات.
أما عندما تدخل إلى سبتة أو مليلية فتستقبلك بسرعة رياح المغرب والمغاربة، بالعمران والعادات والتقاليد. المغاربة الذين يعيشون في هذه المدينة هم الغالبية من بين السكان وما يزالون يحتفظون بتقاليدهم ولغتهم وعاداتهم ولا يترددون في إعلان مغربيتهم وارتباطهم بالوطن الأم على الرغم من وجودهم لعقود طويلة تحت الحكم الإسباني الذي يظل في نهاية المطاف مجرد احتلال لا بد أن يزول. ولأن المكون الثقافي حاضر بقوة في الثغرين السليبين فإن قضية تحريرهما لن تموت أبدا. إذا لم يحملها هذا الجيل سيعود الجيل القادم لحملها لأنها متوارثة بين أجيال طويلة وعريضة من المغاربة الذين فرضت عليهم الظروف التعايش مع وضع الاحتلال الشاذ.
هذا هو الواقع الذي لا يمكن لأي طرف في إسبانيا أن ينكره أو يحاول طمسه أو التضليل بشأنه. بعد أن أكدنا على ذلك، هل هذا يعني أن نحوّل قضية سبتة ومليلية إلى ذريعة جديدة لنزاع أو أزمة مع الجارة الإسبانية؟ هل تعيش العلاقات البريطانية الإسبانية حالة أزمة مثلا بسبب مطالب إسبانيا المشروعة في استرجاع صخرة جبل طارق؟ نحن في زمن مختلف عن الأزمنة الإمبريالية التي كان فيها الوجود الأجنبي على أرض ما يعني الصِّدام والمواجهة والعنف. لقد حرّر غاندي الهند من احتلال دام لقرون طويلة بسياسة سلمية قوامها العصيان المدني ولم يطلق رصاصة واحدة لتحقيق هذا المبتغى. والمغرب الذي فعلت سفارته في مدريد خيرا عندما نشرت الخريطة الكاملة للمملكة المغربية بثغريها المتحلّين لا يمكن أن يدخل اليوم أو غدا في مواجهة مع إسبانيا من أجل تحرير الثغرين.
هذا موضوع ينبغي أن يخضع للتفاوض وستساعد على التقدم فيه الظروف السياسية والجيوستراتيجية الإقليمية والدولية. إسبانيا اليوم تدرك أن المغرب قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها أو تجاوز مكانتها ومواقفها. وإذا كان موضوع سبتة ومليلية المحتلتين يوظَّف من طرف الأحزاب الإسبانية، اليمينية على الخصوص، كورقة انتخابية من أجل خلق أجواء من الاحتقان الداخلي ونشر ثقافة الخوف وكراهية الأجنبي، ولا سيّما المغربي، فإن في إسبانيا أيضا أحزاب أكثر عقلانية ورزانة وتؤمن، حتى إن لم تعلن ذلك، أن تصفية استعمار المدينتين السليبتين مسألة وقت وموازين قوى لا أقل ولا أكثر. عندما ستتغير هذه الموازين أكثر لصالح المغرب الذي يسير بخطى ثابتة لفرض نفسه كقوة إقليمية مؤثرة حينها لن يكون هناك مفر من مناقشة ذلك والجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل حسم هذا المشكل والاتفاق على صيغة معينة لتصفيته.
من هذه الصيغ مثلا الحفاظ على المصالح الإسبانية داخل المدينتين السليبتين ومنح الحق لمواطنيها في الحصول على الجنسية المغربية، وبالتالي امتلاك جنسية مزدوجة، أو الاحتفاظ بالجنسية الإسبانية وحدها. إضافة إلى إمكانية المرور عبر مرحلة انتقالية تسند فيها إدارة المدينتين السليبتين إلى قيادة مشتركة بين البلدين في انتظار الوصول إلى اتفاق نهائي، ربما يتضمن صيغة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية أو الحلّ الجذري الذي يتمثل في الإلحاق التام بالسيادة المغربية.
الدار: و م ع
المصدر : https://www.safinow.com/?p=18753
عذراً التعليقات مغلقة