ذ. الكبير الداديسي** إذا كانت مهمة النقد غربلة ما يقدم للمتلقي وتمييز الغث من السمين والتعريف بالأعمال الجادة القادر ة على تنمية الوعي والذوق الجماعي فإن مسؤولية ناقد القصة القصيرة جدا تبدو أعظم، لأنه يتعامل مع ننوع أدبي مستحدث، زئبقي، مكثف حي لا زال ينمو ويتفاعل مع محيطه مما يحتم عليه البحث عن جهاز مفاهيمي وعن مصطلح نقدي وفق منهج يتناسب و الحالة الطارئة في عصر يسعى لتسليع كل شيء، وما كان لي أن أكتب عن القصة القصيرة جدا إلا بعد قراءة عدد لا ببأس من المجموعات سمحت لي ببداية بلورة تصور حول هذا “النوع” الذي غدا يفرض نفسه تدريجيا على القارئ العربي…
لا خلاف حول كون “القصة القصيرة جدا” من أكثر الأنواع الأدبية حداثة في أدنا العربي، ورغم حداثتها فإن ما تراكمه من نتاج يحتم ضرورة مواكبة مستجدات هذه الكتابة المجهرية الزئبقية المنفلتة من المعيارية المدرسية والتي يكاد يكون الاتفاق حول ما يفردها من خصائص تتلخص في قصر الحجم ، والإيحاء، التكثيف، وحضور سردية موجزة، تنبني على الرمزية و اعتماد التلميح بدل التصريح و السعي إلى تجريب قول كل في شيء جمل قصيرة موسومة بحركية غايتها توتير المواقف وتأزيم الأحداث في كتابة مبنية على الحذف والاختزال عبر بلاغة الانزياح والخرق الجمالي. وهو ما يجعل منها كتابة نعرفها ولا نستطيع أن نعرّفها، بل لا زلنا نختلف حول تسميتها وتجنيسها.
و” القصة القصيرة جدا ” من الناحية التركيبية مكونة من ثلاث كلمات: الأولى تتضمن معيارا نوعيا يحدد النوع الأدبي (قصة) فيما الكلمتان الثانية والثالثة تتضمننا حكما بمعيار كمي يحدد الحجم (قصيرة جدا) ومن تمة فالتركيب لا يحيل على شكل أو نوع جديد وإنما يحدد حجما لشكل كان موجودا هو (القصة القصيرة) ، ولو كان الأمر يرتبط بنوع جديد لاختير له مصطلح يناسبه، والك يعلم أن معظم النقاش الذي يثار في السنوات الأخير يدور حول كلمة ” جدا” ما دام مصطلح “القصة القصيرة” متداول ولم يعد يثير ناقدا . أما “جدا” تلك فليست سوى خصيصة وسمة خارجية لا علاقة لها بالخصائص البنيوية، والسمات المميزة الداخلية للنوع، وقلما وجدنا في تاريخنا الأدبي تحديدا لنوع / شكل أدبي باعتماد معيار خارجي وحيد يتمثل في الحيز الجغرافي الطباعي الذي ينشر عليه النص…
أما من الناحية الدلالية الكل متفق على أن القصة القصيرة جدا هي كتابة أشبه ما تكون بهايكو سردي، فرضه زمن السرعة ، ليتماشى وزمن السندويش وال SMS ويقدم للقارئ وجبة سريعة قد تكون مكونة من جملة سردية واحدة، وقصة أحيانا أقصر من عنوانها فنجد عنوانا مشحونا بالدلالات والإيحائات التي لا تنتهي وتحته قصة قزمية مكونة من جملة، أو جملتين… صغر الحجم يحيل اللغة سهاما مصوبة نحو الهدف، ويجعلها شكلا تعبيريا منزاحا عن الأشكال التقليدية وهو ما يفرض على النقاد تغيير أدوات القراءة التقليدية، والبحث عن بدائل في مقاربة هذه الكبسولة المكثفة، والمادة زئبقية التي تنفلت من قارئها قبل الإمساك بها، تحدث به زلزلة في ما يشبه “اللذغ على عجل” تتلاشى ذبذباتها سريعا كما السفينة ترج مياه البحر لتعود المياه لهدوئها بمجرد مرور السفينة…
وعلى الرغم من مضي سنوات على تداول هذا النوع من الكتابة في ثقافتنا المعاصرة فإنه – ككل شيء جديد يكون له أنصار مؤيدون يدافعون عنه، و معارضون رافضون يتصدون له- فإنه لا زال يطرح عددا من الإشكالات أمام القارئ من أهمها:
إشكال التسمية: صحيح أن تسمية “القصة القصيرة جدا” تكاد تكون التسمية الأكثر تداولا ، لكن من حين لآخر تطالعنا تسميات يقترحها نقاد يتابعنا تطورات هذه الكتابة منها ” القصة البرقية” بحسب يوسف سامي اليوسف ، وأطلق عليها الكاتب السوري رياض عصمت (القصة الصرعة)، وسماها القاص الفرنسي فيليكس فينون (قصص السطور الثلاثة) وهناك من يسميها الشطية، الومضة، الأقصوصة، ومن يطلق عليها أيضا اللوحة، ، المشهد، الخاطرة، المقطع ، الشذرة… ونحن نرة أن الوقت قد حان لحسم التسمية لأن تعدد الأسماء ليس سوى مدعاة للبلبة والتشكيك.
إشكال الأصل : لا زال المتتبعون حائرين في أصل القصة القصيرة جدا، بين يراها نوعا سرديا متطورا عن القصة القصيرة لما تتوفر عليه من سرد، حكاية، أحداث،شخصيات، لحظة الاكتشاف، المفاجأة والخاتمة… وبين من يعتبرها متطورة عن قصيدة النثر، لما تشتمل عليه من لغة شعرية، هيمنة الغنائية، واستعمال لغة مرسلة توظف أدوات الشعر من مجاز وانزياح وصورة فنية … ومن يرجعها إلى الشعر الحر لاعتمادها نظام الأسطر والمقاطع، وحسن توظيف البياض مع الإفراط في توظيف البديع التوريات ، الطباق والجاس والاعتناء بالجانب الصوتي… لكن يبدو هذا النقاش مجانيا ما دام هذا النوع قد اختار تصنفه بالانحياز إلى القصة القصيرة واكتفى بإضافة “جدا” ليميز نفسه.
إشكال التجنيس : إذا كان
التجنيس يبدو مرتبطا بإشكال التسمية، فإن سؤالا من قبيل: مصطلح نسم به
القصة القصيرة جدا يبقى مشروعا. فهل هذه الكتابة تشكل نوعا أدبيا قائما
بذاته أم هل هي مجرد صنف من جنس كان متداولا خاصة أمام تعدد المصطلحات
المستخدمة في نظرية النوع والتي تشير إلى اختلافات حول مفهوم النوع نفسه
“وان مصطلحات من قبيل نوع Genre، وصيغة Mode, ونمط Type، وصنف Class تشير
إلى سمات نوعية متباينة يتكون منها مفهوم النوع الأدبي وكلها يمكن أن
تستخدم على نحو يجعل منها مصطلحات مترادفة أحيانا ومتباينة أحيانا أخرى”( )
، خاصة إذا أضيفت إليها مصطلحات أخرى من قبيل الطريقة، الشكل والجنس
الأدبي ، أمام وجود تيار جارف اليوم ينحى إلى اعتبار( الأعراف والمواضعات
هي التي تحدد جنس/ نوع الخطاب المعاصر لأنه ليس له خصائص مميزة ملازمة أي
أن المتلقي هو الذي يمنح الهوية) مما يطرح سؤالا شائكا: من يحدد النوع
أهو الكاتب ، المتلقي أم السمات المميزة للنوع؟
وللخروج من هذه الحلقة
المفرغة سنحاول التعامل مع “القصة القصيرة جدا” انطلاقا من التسمية كصنف
من أصناف، أو صيغة من صيغ القصة وكفى النقاد شر النقاش المجاني.
إشكال الأصالة : هناك خلاف كبير حول مدى أصالة هذا الصنف بين من يعتبره شكلا تعبيريا دخيلا على الثقافة العربية كانت بدايته بأمريكا اللاثينية، ومن تمة فهو ليس إلا شكلا تعبيرا مستوردا جرفته إلينا عولمة الثقافة التي حطمت الحدود وسمحت بتسلل عدد من الأشكال والوسائط التعبيرية إلى ثقافتنا العربية، وبين ن يعتبره جنسا أصيلا وتطورا طبيعيا لأشكال تعبيرية كانت متداولة لدينا منها المحدث كالقصة القصيرة ومنها القديم المتمثل في الأشكال الحكائية الشعبية الموروثة كالنكتة ، والناذرة…
ومهما
يكن فالقصة القصيرة اليوم في العالم العربي صارت نوعا أدبيا من تجليات ما
بعد الحداثة، وشكلا يسعى ل ( يُحرز بأقل حجم من الكلام أكبر حجم من
المعنى) ولأول مرة يكون للعرب شكل تعبيري يُؤجرئ القول المأثور (خير
الكلام ما قل ودل) و قول أبي العتاهية
وخير الكلام قليل الحروف كثير القطوف بليغ الأثر
على الرغم من الهجوم العنيف الذي شنه بعض المعارضين على هذه التجربة التي
وصفوها بالمسخ الذي لا يعرف أصله، وحمار الكتاب، والكتابة غير الناضجة
التي لا يلتجئ إليها إلا الضعاف البُغاث الذين لا يقوون على التحليق في
الأجواء العليا للكتابة، مما يجعلها تفتقر إلى رؤية دقيقة تتماشى والواقع
وهي أشبه بالحركة الدادية (Le Dadaisme) لا تعني شيئا ولا تحمل أي محتوى
وكل همها هز الممارسات التقليدية وتكسير القيم السائدة والسعي إلى صفة ”
العمل الفني” على كل تافه، وأنها تكرس الكسل وتشجع العزوف عن القراءة في
مجتمع لا يقرأ أصلا.
وعلى الرغم من تعدد الإشكالات التي تعترض دارس القصة القصيرة جدا فلا يسعنا إلا دعم التجربة ورعايتها ومصاحبتها بالنقد – حتى لا تظل مجرد نزوة وموضة عابرة يجذب بريقها كل من هب وذب بحجة خرق المألوف- لقناعتنا بأنه لن تستطيع أن تقف على رجليها و تفرض نفسها ، وتحدد الاتساق والانسجام بين خصائصها التي تفردها وتميزها عن غيرها من الأجناس، ما لم يصاحبها تراكم نقدي يساهم في بلورة وتطوير النوع، حتى يجد هذا النوع الأدبي تجاوبا من المتلقين فلا استمرار لي جنس أو نوع لا يقبل عليه أحد، عسى يكون لهذا النوع أثر في الذوق العام مادام يتوفر على قدر من الأدبية تؤهله ليوصف بنوع أدبي ، وإلا سنضيع على ناشئتنا فرصة التفاعل مع هذه الأشكال التعبيرية القصيرة التي أنتجها عصر السرعة والتي تجمل في طياتها بذورا هجينة تجمع الأصيل بالمستورد، والقديم بالجديد… لأنه مهما تغيرت ملامح النوع فـإنه (يستمر في الحياة كصنف عن طريق الربط المعتاد للأعمال الجديدة بالأنواع الموجودة سلفا، وقد يتعرض النوع لتطور وأحيانا لثورة مفاجئة، مع ذلك وبسبب الربط المعتاد للعمل الأدبي إلى الأنواع المحددة سلفا يحتفظ النوع باسمه على الرغم من حدوث تبدل جذري في بناء الأعمال التي تنتمي إليه)
ومن بين خصائص القصة القصيرة حدا، قدرتها – رغم فزمتيتها – على الجمع بين الشعرية والحكائية، لكن رغم حضور الشعرية فالسرد أو الحكائية تبقى السمة المهيمنة فيها. فمهما حاول كاتب القصة القصيرة جدا التخلص من الشخصية القصصية التقليدية، والاقتصاد في الأوصاف، أسماء العلم، الأفعال الكلامية، الأدوار المواقف ومن التسلسل والتراتبية ، ومنطق الأحداث وزمنية القص… فإنه ما يزال يجد صعوبة في تدمير الحكاية . لتتمكن القصة القصيرة جدا من كتابة شهادة وفاة البناء الموباساني الثلاثي (مقدمة عقدة، نهاية/حل) لتحيل القصة إلى تجربة نفسية في جمل سردية شعرية مكثفة بسيطة ينتفي فيها الوصف، الشرح، والتفسير. تقوم على ثنائيات ضدية تضع في اعتبارها ثقافة القارئ حتى تؤدي رسالتها، لقيامها على انزياح اللفظ والمعنى في بنية هلامية تنفتح على النكتة، الطرفة، الخرافة، الفلكلور،المقالة، الشعر والقصة القصيرة… فتكون بذلك أهم خصائصها استهداف تقنيات الجملة بدل تقنيات النص، وتقدم للقارئ كبسولة سمتها التكثيف اللغوي، اختزال المضمون، المفاجأة و تخييب أفق انتظار المتلقي….
صحيح أن القصة القصيرة جدا فيها جل خصائص القصة القصيرة من شخصية ، زمان ، مكان، حوار والسرد… لكن كل هذه الخصائص تستحيل أطيافا فقط … فلا خلاف حول كونها نصا حكائيا، وكل حكي لابد أن يتضمن وجود حكاية (حدث) وطريقة للحكي (سرد) لكن الحدث فيها لا يخضع للنمو والتسلسل والدرامية، بل إن الحدث ما يكاد يبتدئ حتى تكون نهايته ليضرب عرض الحائط كل تلك التقنيات التي نظر لها علماء السرد حول أنواع البناء السردي (تصاعدي تنازلي، دائري، التضمين ، التناوب ،الاسترجاع …) وحول الرؤية السردية كما حددها منظروها أمثال جيرار جينيت، تزفتان تودوروف وبول بويليون (من خلف، من خارج ، مصاحبة) وطرق مقاربة أنواع وأدوار الشخصيات ( الشخصية النامية، البسيطة، مفهوم البطل، والشخصية الرئيسية …) وما نظر له هنري جيمس وبرسي لوبوك في السرد بين: الأسلوب “البانورامي” والأسلوب “المشهدي” ناهيك عن ومقاربة الأبعاد النفسية الاجتماعية الثقافية للشخصيات بذلك تقف القصة القصيرة جدا عصية ترفض الخضوع لنظرية العوامل، والخطاطة السردية ، رافضة قبول دراسة مفاهيم الزمن ( زمن النص، زمن الخطاب، زمن القصة، ، الاستباق ، الاسترجاعي، الخلاصة ، واستحالة مقاربة المكان (المفتوح أو المغلق) بالطريقة التقليدية التي تبحث في أبعاد الأمكنة الجمالية، الجغرافية، الحضارية الطبيعية،السياسية الاجتماعية، و …. لأن لا شيئ لكل هذه العناصر وغيرها في القصة القصيرة جدا، وإن وجدت فمجرد تلميح أو شبح يصعب الإمساك به وجعله موضوع دراسة علمية دقيقة. فلا مجال في الق ق ج يتسع لكل تلك التقنيات التقليدية لذلك كان التكثيف خاصيتها الأساس، تكثيف يتجاوز الإيجاز بمعناه البلاغي ، التي التكثيف المنفتح على التناص بالإحالة على نصوص غائبة في لغة موحية رمزية مشحونة بإحالات أسطورية، لغة منزاحة كثيفة ومكثفة بإيقاع يجعل من أسطر قليلة دلالات تضيق عنها الصفحات إذا بحثنا لها عن تفصيلات… لتصبح القصة القصيرة جدا (فسيفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنيات مختلفة) ويفتح التناص باتساعه في هذا النص المكثف كوة وفضاء رحبا لا حدود له، لما يتيحه من انفتاح على نصوص كبرى في القرآن الشعر الأسطورة الخرافة …. فيصبح التناص عامل إخصاب للق ق ج ومولد للمعاني … وهو ما يغري بمتابعة تجربة القصة القصيرة جدا حتى وإن كانت لا زالت تعتمد على التجريب بحثا عن فرادتها / تتنصل تدريجيا من معيارية العناصر التقليدية للقصة القصيرة بركوب المغامرة،
يستنتج إذن أن الفترة المعاصرة كتابة أدبية حديثة قد يكون الكاتب فيها ملتزما لكنها بالتأكيد غير ملتزمة، لهيمنة الذاتية والغنائية فيها ـ ولأن لا التزام للنص أصلا، خاصة أمام تحطيم الحدود الذاتية الفردانية نقل الصراع من الواقع إلى أعماق الذات وركوب الانزياح، الأسطورة والتناص والاكتفاء بالتلميح مع خصوصية مستهلك الأدب في الفترة المعاصرة، وطبيعة القصاص الذي غدا يكتب عن أوضاعه النفسية أكثر من كتابته عن أوضاعه الاجتماعية ، ليجعل هدفه إشباع حاجة خاصة أكثر من إشباع حاجات المجتمع، ذلك القصاص الذي لا يقرأ للمبدعين أمثاله بقدر ما يراقبهم ويترقب هفواتهم، كتاب يشتكون فقرا في التنظير ويسعون بكل الوسائل إلى إثبات أنفسهم ككتاب عبر وسائط متلهفة لملء برامجها بكل من يدعي الكتابة في زمن إخراج كتابة القصة القصيرة جدا من جبة الأكاديمي
المصدر : https://www.safinow.com/?p=2457