مجاديب اسفي ….؟

مجاديب اسفي ….؟

2019-02-28T21:30:25+01:00
الشأن المحلي
28 فبراير 2019آخر تحديث : الخميس 28 فبراير 2019 - 9:30 مساءً

بقلم سيومي خليل**كانتْ آسَفي مَدينة للمجَاديب ، لم تَكن لرحمَتها تسميهم مَجَانين، وما كَانت تعرف أنَّهم يسمون مرضى نفسيين في مدن غربية تقع وراء محيطها الأطلسي ،كانُوا مَجاديب لا غير ، وحين تُكرمهم وتَرفع منْ شَأنهم كانت تسميهم بشرفا مَخنترين …يَخرج من بيوتها الرطبة الواطئة مجدوب ليسيحَ بين دروبها ومزابلها وأزقتها ، يخرج من عَقْله بعد أنَّ ملّ حيرته ، وبعد أنْ ضاقت به سبل الفهم القويم ، يُخرجه الوضع الاقتصادي الذي تشبه هشاشتُه هشاشة عود قصب لفحته الشّمس كثيرا ، الدراهم حينَ تَقل تجن ، والجوع حين يَتلوى من كثرته يُجّن ، والمدينة نفسها التي وُضعَت في رف التنمية كانت تجن .

المَجاديب الشرفاء كانوا بدون بطاقات أميرية أو كَرماتية، مُجرد أرقام مهملة استطاع جنونها أن يَجعلها أرقاما وَازنة داخل المدينة . يُعرفون بأسماء غريبة . تعرفهم كُل الأعين ، ولمْ يَكن ممكنا أبدا أن يَرْجعو عن باب طَرقوه ؛ فالمجدوب ضيف الله الذي يرفض أنْ يَدخل البيت ويكتفي بالجُلوس عند العتبة ليأكل أي شَيء خرج من كرم البيت …كأنّ المدينة فَهمت قبل أن تفهم مؤسسات الدولة أنّ المَجاديب أولائك منّا ، صورة عن تسييرنَا ، وَوجه آخر من أوْجه لاَمبَالاتنا ، لذا احتضنتهم دون أنْ تُقْصيهم ، ففي فصول القَرّ والبَرد لم يجرؤ باقي سكان المدينة على ترك المجاديب في سكنهم المفتوح على السماء ، كَثيرون من أبناء آسفي مَنَحُوا جُزء من بيوتهم للمجَاديب ، لم يكن هؤلاء الأبْنَاء يَعرفون أنهم أبدعوا في إنْتاج مُستشفيات مرضى نفسيين قبل أن ينشأ لهَا جناح في مستشفاه محمد الخامس الكبير حينَ كان جديدا ، أما الآن فهو شيء يشبه بناية لا وظيفة لها تامة ، ولم يعرفوا أنّ بطريقة معاملتهم لمجاديب المدينة والاستماع إلى جنونهم كأنّه حَكي صوفي وكرماتي كانوا معالجين نفسيين ؛ منهم من كانَ يَرقص فرحا وهو يرى مجدوب حاملاً هجْهُوجا على كتفه يضرب عليه ويغني كلامَا غير مفهوم ، ومنهم من كان يُنْصت لمجْدوب يُحدثه قصة غير مفهومة أبدا ، بل منهم منْ كَان يعتبر حتى أولائك المجاديب العنيفين والصامتين إشارة ربانية يريد أن تقول شيئا …

كثر المجاديب ، كل حي ، وكل عرشان بعششه الآهلة بالسكَان والكلاب والقطط وأفراخ الدجاج البلدي ، وكل تُرعة خَالية من المدينة ،كانت فضاءات لظهور مجاديب مفترضين يصرون علَى التّميز على بعضهم بعضا ؛ هناك من ميز نَفْسه بإنشاد أمداح نبوية بصوت مُرتفع ، ما أن يظهر حتى تصدح الأنَاشيد كانها من صوت مسجلة ، هناك من تَميز بقراءة بضع آيات من القرآن دون أن يفهمها ،ومنهم منْ تَميز بالادعاء أنه شريف يعالج البرص والعمى ونزلات برد يَناير والتقرحات الجلدية التي كانَ مصابا بها ، ومنهم منْ قَال أنّه سفير العانسات اللواتي حين يعرفنَه يبحثنَ عنه في ترحاله بالمدينة ويقدمن له سكر وزيت وبعض دَراهم كي يعطيهم تُفالته؛ يتفل في أي مكان بأجْسادهن كي ينحلّ العقد والعكس الذي يُصاحبهن، ولن يَنسى المجدوب أن يُطعم لذته وكبته عبر لمسات مسروقة إلى جسدها .

لكل مَجدوب مهنة صعبة لا يجرؤ العقلاء على القيام بها ، وهي تَحْديدا من تجعله رغم جنونه البّين ووساخته أشهر من علم فوقَهُ نَار بالمدينة .

للمَجاديب تجمعات كأنهم صاروا يَعرفون قيمتهم بالمدينة ، يتجمعون بالمدينة القديمة ، وقُرب زاية سيد الزلزولي كما ينطقه أبناء المَدينة ، وقرب المدرسة العتيقة والمسجد الذي يُقابلها ، حتى الكنيسة التي تختبئ في درب البويبة الذي يُشبه أَصبعَا لأَحد الغَيلان كَانُوا يَتجمعون …يلاعبون الأطْفال ويلاعبهم الأطفَال ، وما كان بإمكان طفل أنْ يَتعدى حدوده فَهو يَعلم أنّ شَيخا كبيرا يتربص ليثبت أقل اهَانة في حق المجدوب.

آسفي مَدينة كانت بها الزّوايا أكثر رفعة من البيوت ، يهتم بها أولائك الذين يتخلون عن الاهتمام بمحلات سكنهم ، فسكنهم مجرد حُطآن ، أما الزواية وقبور الشرفاء وتوابيتهم الخضراء فقد كانَت أكثر من ذلك ، وهذا الأكْثَر من ذلك هو من وصل إليه المجاديب لذا كانوا همْ وَحدهم من يعلنون ملكيتهم الخفية لهذه الأمْكنَة ، يدخلونها وقتما شاءوا وكيفمَا شاؤوا ويخرجونها في حال جنون أكثَر زادهم عنْد أولائك المتهيبين من هذه الأماكن مهابة وكرَامة . المَجدوب الأكثر عزما في اقتحَام خلوات الشرفاء هو الأكْثَر كرامَات ، فالاقتحام كان رياضة صوفية للسالكين .

الآن ليس هناَك مجاديب بل هناك مجانين ومُتَشردين وحمقى وأفراد بدون مأوى … ليس فيهم وليا شطح وخَرج عن عقله ، بل كل ما في الأمر أنَّ طاحونة اللافهم واللاقدرة طحنت الحبّات الضعيفة ورمتها بدون جعْجَعة إلى المدينة . الناس لم تعدْ تَقول مجدوب وشريف كأنّهم فهموا أنها مصطلحات فقدت صلاحيتها ، وانتهت في نفس الوقت الذي صارت فيه فضاءات الشّطح والسادة والزويا أماكن لتبول المارة . الآن ، في المدينة ، الحمقى لا يُقبلون على الأَبْواب ، ولا يمكن أن ترى إلا نَادرا كندرة الكبريت الأحْمر أحمق يأكل كُسكسا قُرب عتبة باب ، ومن المستحيل أن توقف امرأة أحْمقا وتَسأله أن يفك عكسها ويجلب لها العَريس الذي تأخر كثيرا .

الآن ، يَمْكن للمارة أن يمروا على أحمق ممدد على الأرض ، دون أن يعرفوا ذلك ، بل يظنون أن ذلك المتكوم فوق الأزْبَال مجرد ميكة كحلة كبيرة ومملوءة بقشور الخضر وبقايا السمك …حتى وهنَاك جنَاح في مستشفى محمد الخامس للمجانين فإن المدينة هي من تتكفل بسكنهم دون علاجهم هذه المرّة ودون احترامهم .

سيومي خليل

رابط مختصر

اترك تعليق

يجب ان تسجل الدخول لكي تتمكن من إضافة التعليقات