بقلم أيوب الزهراوي **الذاكرة لا يستهويها تذكر الأشخاص فحسب، فهي دوما تربط بين الأشخاص والزمان والمكان، في إطار ما يسميه كانط بالمقولات العقلية… الزمان حاضر دوما في سرد تفاصيل الأحداث التي تنعش الذاكرة وتقويها، وتجعل من نفسها حافزا لهذه الذاكرة… الذاكرة هي ذاكرة الأفراد، وهي ذاكرة الجماعة أيضا، لهذا إرتأينا هذه المرة أن نحدثكم عن مكان شكل إنسانية أبناء منطقتنا، وأحيانا جاهليتهم.
يتعلق الأمر بالحديث عن سوقنا الأسبوعي؛ والحديث عن سوقنا هذا لا يستقيم دون التطرق إلى بعض الحيثيات التي رسمت على تجاعيد الإنسان هنا. إننا بهذا المعنى سنتحدث عن علاقة المكان بالأشخاص، أو عن علاقة السوق بما يصطلح عليه عندنا ب”السواق”.
بداية استسمحكم بالقول أن ذاكرة المكان ضعيفة لدي، على خلاف ذاكرة الأشخاص، لكن سأحاول أن أعصرها جيدا حتى أرتب الأحداث والأشياء قدر الإمكان… يؤسفني أن أخبركم أن سوقنا الأسبوعي هذا لا ينتمي إلى سلالة الأسواق النموذجية، فهو لا يعترف للتكنولوجيا بسيادتها على تسييره، وهو كذلك لا يعرف للتطور طريقا، اللهم أنه بني على أنقاض سوق آخر بعد فاجعة ستينيات القرن الماضي… لكن هذا لا يعني أن سوقنا الأسبوعي يعرف ركودا يصعب معه استنهاض همم أصحاب السوق ورواده، فقبل سنوات، وبالضبط في سنة 2006، عرف تشييد المدرسة الثانوية الإعدادية، تلك المدرسة التي تقع أسوارها على هضبة من هضاب الجماعة التي يتواجد السوق ضمن نفوذها الترابي، وهذا لا يصير صوابا إذا ما استثنينا الحديث عن “الطاكسيات” التي صارت بمثابة حافلات… كما عرفت قبل سنتين تأسيس دار الشباب التي لم يعرف الشباب إليها سبيلا… لكن ما الذي تغير اليوم في ثقافة أناس المنطقة؟
لن أتحدث عن السوق خارج السوق، بقدر ما سأتحدث عن السوق من داخل السوق وبلغة أقل سوقية، وهنا أقول أن إنسان المنطقة لم يتغير، ولم يكلف نفسه عناء ذلك؛ فالتجاعيد التي تكسو جبينه تخبر الجميع بأن الفقر صار جوهرا له… الإنسان هنا يحدثك عن بطولاته وملاحمه في الماضي، ويأسف على ما أصبح عليه اليوم، وأنت ترى هيأته تحسبه لا ينتمي إلى بلادنا التي قيل، في مديحها، زين البلدان!
الإنسان هنا لا يطمح لشئ آخر غير الموت بشكل مستتر، ومطامحه الدنيوية لا تتعدى الأكل والشرب وراحة البال… إنها أحلام لا تعدو أن تكون حقوقا لما دون الإنسان في البلدان التي تحترم نفسها… تلك المطامح التي تندرج تحت إطار “الحاجيات” كما سماها ماسلو.
لم يتغير الإنسان هنا، ولم تتبدل ثقافته، فهو كان يدخل إلى المقهى المفروش بحصير “السمار” أو”البلاستيك”، ولا زال كذلك… كان يزور بائعي الشعير، الدجاج، الخضر، و سوق البهائم، ولا زال كذلك… ورغم علمه أنه ليس في مقدوره شراء كل هذا، ولا بعضا منه، إلا أن سيكولوجيته المؤطرة بروح الجماعة تفرض عليه القيام بذلك كل أسبوع ودون أن يمل أو يكل يوما.
لم تتغير ثقافة هذا الإنسان، اللهم أن مكان الحلقة الذي كبرنا في أحضانه تحول إلى فضاء لبائعي الوهم، وأنا أمر اليوم على مقربة منه وجدت شخصا يحدثهم عن كراماته وخوارقه، حتى أنه حول تلك الكرامات إلى عقاقير داخل قنينات تباع بدراهم معدودات (20 درهم)، تلك العقاقير هي بمثابة مرهم لآلام الظهر، ودواء للأعين، وعلاج للمرأة العاقر… وأنا هنا لا أعيب على أناس المنطقة الإنصات له، فثقافتنا، بشكل عام، صارت على هذا النحو، فبعدما كانت المعرفة و ثقافة “التحاجي” تؤنسنا وترسم طريقنا، صرنا ننصت إلى أصحاب الشعوذة والتدين الطقوسي حتى أصبحنا نرى حكومة الشعوذة والأولياء الصالحين، وفي هذا قالت الجماهير الشعبية:
“حكومة رئيسها ولي صالح، يدعي معانا في التراويح”
“ياربي يقراو لولاد بلا مدارس بلا أستاذ”
المكان هنا لم يعرف للإنسجام والنظام والتوازن طريقا، فهو يبعث على الارتجال والعشوائية، وبفضل هذا، نقول أن أبناء المنطقة لم يستفيدوا من أبطال أفلام الصين واليابان والتايلاند من أونك باك، تجيت لي، وبروس لي… أي شئ؛ فإلى جانب المقهى قد تجد بائع الثياب، وأمام بائع الثياب ذاك قد ترى الخباز، والقائمة تطول… و نادل المقهى هو الآخر ليس بنادل ولا صاحب مقهى، فهو نادل يوم السوق، وفلاح في باقي الأيام. وبائع المواد الغذائية قد يصبح سائق سيارة لنقل البضائع، وهنا لا يختلف حول البضائع، فهي كل الأشياء، بما فيها الإنسان!. وباختصار، الإنسان هنا لا يعترف بقول أفلاطون والجاحظ، في إطار حديث الأول عن العدالة، والثاني عن اللغة، والذي يفيد أن من قام بوظيفتين أدخل الضيم على إحداهما، ولما لا على كليهما.
وهنا سأقتصر على الحديث عن بعض الأماكن التي تشكل مرتعا للزوار، وفضاء لتداول الكلام و”تسوق” الأخبار.
سأبدأ بالمقهى وصاحبها، ولكم أن تقيسوا على ذلك سائر المهن والحرف الأخرى؛ فالمقهى لا تنتمي إلى مقاهي القرن الواحد والعشرين، إذ لا تتوفر على طابور، وتلفاز من نوع “بلازما”، وكراسي تحبب الناس الجلوس عليها، ونادلة تسر الناظرين الذين لا يفعلون أي شئ سوى المراقبة والعقاب الرمزي… .المقهى هنا لا تتوفر على كل أنواع المشروبات أو بعضا منها… المقهى هنا لا تعدو أن تكون سوى خيمة تتوسطها أعمدة من خشب، وكراسي من حصير، وطابور عبارة عن مائدة خشبية مائلة، وفوق المائدة تلك توجد كؤوس نسلم بأنها مغسولة جيدا، وأباريق شرب فيها الأجداد، ويشرب فيها الأبناء، ومن المؤكد أن الأحفاد سيشربون منها كذلك… أما الكأس التي تستعمل في شرب المياه غير الصالحة للشرب، فهي ليست شيئا أكثر من “طاس السردين”… وبجانب الطابور الخشبي تتواجد براميل مملوءة بالمياه..جدير بالذكر أن هذه المياه تملئ بيوم قبل السوق، وربما كان ذلك من بين الأسباب التي تجعل من شاي السوق شايا لذيذا، حتى وإن كان غير مرصع بالنعناع… وداخل المقهى يجالس الناس بعضهم فوق الحصير، وهم في انتظار “تشحار البراد”، يتداولون النقاش حول مستجدات السوق من ارتفاع أسعار الغنم وانخفاض ثمن الشعير، وماذا عن موسم الحصاد…
وعلى هامش السوق تكسو المجزرة (الكرنة) الأرض الخصبة المتواجدة على جنبات الواد، تلك المجزرة التي سجلنا فيها بعض الذكريات؛ ففوق سطحها كنا نتناول وجبة الغذاء التي تحتوي على الخبز والبيض و”الكامون”، وداخلها كنا نستحم بالماء الذي كان يجود به الصنبور الوحيد الذي تتوفر عليه المجزرة آنذاك… الجزار هنا متسامح مع الناس، ومع الكلاب أيضا… ففوق خشبته يتواجد اللحم، وتحتها تنتعش الكلاب الضالة على مخلفات الذبيحة.
وبجانب المجزرة يتواجد “الحلاقة” التقليديين، ولكم أن تتمعنوا في حجم القذارة التي يعيشها السوق بشكل عام، والمجزرة والمقاهي المجاورة بشكل خاص… الحلاق هنا لا يتوفر على الأدوات الحديثة التي تعتمد على الكهرباء… لا يتوفر على مرآة عاكسة… لا يتوفر على مصففات الشعر ومرطباته… الحلاق هنا يتوفر على مقص و شفرات للحلاقة فقط… يتوفر على مرآة صغيرة؛ المرآة هنا لا تزيف الحقائق، ولكنها تبين الوجوه عريضة تارة، وطويلة تارة أخرى… وفي بعض الأحيان لا تبين أي شئ!
وحتى السعاة لم يتغيروا، ولم يغيروا أماكن تواجدهم ولا حتى سبل استجداء المارة… فذاك لا زال يستعمل نفس الطريقة التي كان يستعملها منذ زمن… وهذه لا زالت تستوطن نفس الفضاء… وذلك لا زال يحمل نفس العود ويتغنى بنفس الكلمات و يستعمل نفس العبارات، رغم أنه يتملك منزلا ضخما لا يملكه أغلب رواد السوق… أما أصحاب العربات فقد ازدادوا بالعشرات.
ختاما أقول أن دار لقمان لا زالت على حالها أو أسوء من ذلك، فلا هي ركبت سفينة التطور شأنها في ذلك شأن بعض الأسواق الأخرى، ولا هي حافظت على وجها البئيس كما في الماضي، فحتى من الأسلاك المصبوغة بالأحمر والأبيض، و التي كانت تقي الناس الوقوع في الواد لم تعد موجودة اليوم… والمدرستين اللتان تتواجدان على جنبات الواد انهار جزء منهما… و”بلخير” المقامر لم يعد موجودا اليوم… أما المستشفى العمومي (سبيطار الحومة) فتتدهور حالته الصحية يوما بعض يوم… ومع ذلك، فالسوق أصبح، منذ سنة 2010، يحتوي على واد مبني بالأحجار، بدلا عن ذاك الذي صنعه المطر لنفسه، غير أن الكوارث التي حلت بالسوق منذ أن تم بناء الواد لم ير السوق أكبر منها سابقا؛ وربما هذا يعود إلى أن عمل البناء ذلك لم يكن موفقا، وربما لأن تشييد الواد جلب معه البركة، فأصبحت الشتاء وفيرة أكثر من أي وقت آخر، ومادمنا أمة تنتصر للخرافة، فالسبب الثاني هو آخر الكلام… والسلام.
المصدر : https://www.safinow.com/?p=3225