الكاتب : محمد افنوني**تعد آسفي من أعرق المدن التاريخية المغربية و أقدمها حضارة ،تضاربت الأبحاث والدراسات بشأن تأسيسها، فهناك آراء ترجح تشييدها على يد الفينيقيين و أخرى ترى أن بناءها تم على يد الكنعانيين، فيما رجح الحسن الوزان أن يكون مشيدوها هم الأفارقة الأقدمون،بينما ذهب آخرون و من ضمنهم أبو القاسم الزياني إلى أن أمراء صنهاجة هم من بنوا مدن آسفي و آزمور، أما صاحب المسالك و الممالك فقد أعتبرأن اسم آسفي بربري مشتق من آسيف الذي يعني الممر المائي فيما ذهب الفقيه الكانوني إلى أن آسفي هو تحريف لكلمة أسفو التي تعني ضوء المنارة أو المشعل الذي كانت تهتدي به السفن البربرية.
وقد كانت آسفي منذ القدم أرضا للتساكن و التعايش و الانفتاح والتسامح الديني لمجموعةمن الشعوبأبرزها البرابرة و اليهود و المسلمونو المسيحيون،كما ذكرت الأبحاث أن هذه الحاضرة عرفت تواجد أقوام أخرى على أراضيها من قبيل الفينيقيين و الكنعانيين و البرغواطيين ،واستقطبت أيضا كثيرا من الأسر المورسكية و العربية، كما مكنها ميناؤها التاريخي من لعب أدوار هامة على مستوى التجارة العالمية ،فقد كان مركزا لتجميع القوافل الآتية من إفريقيا و المحملة بالذهب و مركزا لتصدير الصوف و الجلد و الحبوب و السكر و غيرها إلى أوروبا.
و قد عاشت آسفي في عهد الموحدين و المريينيين حياة مزدهرة و كريمةإلا أن الفوضى السياسيةالتي عرفتها البلاد في أواخر حكم المرينيين وخاصة بعد مقتل أبو عنان المريني و استيلاء الوزراء الوطاسيين على الحكم جعلت الدولة فاقدة لسلطتها وسيطرتها و هيبتها مما أدى إلى تعرض المغرب لأطماع أجنبية تعرضت على إثرها آسفي، خلال القرن 16 الميلادي، إلى غزو و احتلال البرتغاليين دام 33سنة. و بوصول السعديين سدة الحكم نشطت الحركات الجهادية لمقاومة الاحتلال البرتغالي حيث تم تحرير كافة المدن و الثغور المحتلة وتم توحيد معظم أجزاء المغرب ، وقد بادر السعديون إلى إصلاح و ترميم كل ما خربه البرتغاليون قصد إعادة رونق و بهاء المدينة التي افتقدته مدة الغزو ، كما عملوا على إعادة الروح للحركة التجارية للمدينة حتى أصبح ميناؤها هو الميناء الرئيسي و الديبلوماسي للدولة السعدية نظرا للصفقات التجارية و السياسية الكبرى التي كانت تبرم فيه، إضافة إلى تواجد مجموعة من التمثيليات القنصلية الدولية بالمدينة.
و بانهيار الدولة السعدية بايع سكان آسفي زعماء الدولة العلوية؛ المولى رشيد و المولى إسماعيل و سيدي محمد بن عبد الله حيث استقر هذا الأخير بالمدينة بعد فراره من قبائل الرحامنة ، وقد عرفت آسفي في عهده ازدهارا كبيرا، إلا أن وفاته وتطاحن ابنائه على الحكم ، جعل آسفي،و لفترات طويلة ،تعيشتدهورا مهما، إلا أن المدينة ، عرفت ، بعد ذلك،توافد جالية انجليزية مهمة و خاصة بعد إبرام السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام لاتفاقيات تجارية مع الانجليز في القرن 19،و الذين عملوا على حماية التمثيليات الديبلوماسية و القنصلية،و مع فرض الحماية و الاستعمار الفرنسي على المغرب ، قدم سكان آسفيشهداء و مناضلين و فدائيين كبار من أجل تحرير البلاد من قبضة الاستعمار الغاشم ، و يكفينا فخرا أن ثلاثة من أبنائها هم من الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال و هم:محمد البعمراني و عبد السلام المساري و محمد بلخضير.
هكذا نلاحظ أن آسفي عبر الأزمنة التاريخية كانت مدينة الرقي و الازدهار، مدينة السلم و التعايش لكل الشعوب التي وطأت أراضيها ،مدينة الرباطات والزوايا و الصلحاء و الأولياء الذين لقنوا أبناءها مختلف التعاليم الاسلامية و ساهموا في تأطير السكان لمقارعة الغزاة و مقاومة المحتلينلها ، مدينة نالت اعجاب الشعراء و الكتاب و الملوك و الأمراء و افتتن كثير من المستعمرين بجمالها وهوائها النقي و بفنونها المعماريةالمميزة و آثارها التاريخية التي لازال كثير منها شاهدا على فترات مجدها و عزها وأزمنتها الرائعة .
آسفي حاضرة الاحتضار:
من يرى حال مدينة آسفي من الاستقلال إلى اليوم يوصب بالذهول و الصدمة ، كيف كتب لها أن تتحول من مدينة الحضور التاريخي القوي الوازن إلى مدينةالتغييب والعزلة و النسيان ، من مدينة جذابة تربعتعلى عرش الساحل الأطلسي لإفريقيا لحقب طويلة، إلى مدينة بئيسة كأنها بدون هوية و فاقدة للذاكرة و خارج التاريخ، مدينة ابتليت بمشاريع كارثية أتت على الأخضر و اليابس ،على الأحياء البرية و البحرية بمباركة و تهليل من منتخبيها و مسئوليها.
إن بداية اشتغال المركب الكيماوي سنة 1965حولآسفي إلى مقبرة بيئية بامتياز ، فحجم نفاياته السائلة الحاملة لمختلف البقايا المعدنية الخطيرة و التي تصب في البحر تقدر بملايين الأمطار المكعبة برزت آثارها السلبية بشكل واضح على الثروة السمكية التي تقلصت بثلاثة أضعاف منذ ستينيات القرن الماضي إلى الآن ، كانت من آثاره السلبية إغلاق العشرات من معامل التصبير وتشريد آلاف الأسر ، أما غازاته السامة التي تنفثها مداخنه في الهواء فيقدرها الخبراء ب115طنا ،أما آثارها السلبية فهي واضحة للعيان ،فالمدينة تحطم الأرقام القياسية وطنيا في أمراض الربو و الحساسية وهشاشة العظام وتصلب الشرايين و الضغط الدموي و السكري و الاضطرابات النفسية….و يتعرض أهلها بين الفينة و الأخرى لاختناقات تنفسية حادة كان أبرزها ما وقع يوم الخميس الأسود 8 شتنبر 2011 و ليلتي الجمعة و السبت 7و8مارس2014 عند تسرب غازات سامة خطيرة من المركب الكيماوي أصابت العشرات من الساكنة بإغماءات نقلوا على إثرها إلى المستشفى الإقليمي.
أما المزبلة البلدية الموجودة على مشارف المدينة وعلى قارعة طريق سبت جزولةفتستقبلك بروائحها الكريهة والنتنة و بغازاتها السامة المنبعثة منها بفعل حرق نفاياتها الصلبة، كما أن تواجد أفرنة تقليدية لصناعة الفخار بمنطة باب الشعبة أضر كثيرا بصحة سكان الأحياء المجاورة نظرا لخطورة الانبعاثات الغازية منها و خاصة غازات ثاني أوكسيد الكاربون.
لقد قدر لهذه المدينة ،أيضا، أن يعيش أهلها وسط أكوام من الأتربة و الحجارة و المتواجدة في كل مكان و بشتى أنواعها ، فبطريق للا فاطنة و داخل المجال الحضري يتم تجميع الأحجارالمعدنية المحملة بالأتربة قبل تصديرها و في طريق حد احرارة يوجد مقلع لأتربة إصلاح الطرقات (التوفنة) و لحجارة البناء تتطاير غباره على المنطقة الشمالية ناهيك عن صناعة الياجور و بشتى أشكاله ، أما ميناء المدينة فتتواجد به مجموعة من المعادن المتراكمة في انتظار تصديرها كأحجار الجبس أو المستوردة كالكبريت و التي تؤثر سلبا على صحة المواطنين و خاصة الذين يستحمون في الشاطئ الوحيد للمدينة ، أما مخرج المدينة في اتجاه سبت جزولة ، فقد تحول جزء من المجال الحضري و منطقة المغاوير إلى طلاء أبيضمن الغبار بفعل تواجد وحدات لصناعة الجبس، كما أن المطاحن الكبرىللدقيق الموجودة وسط المدينة تساهم بدورها في تشديد الخناق على الساكنةالمحيطة بها ،لهذه الأسباب يعتبر الخبراء أن آسفي تعد من أكثر المدن المغربية غبارا إذ يضمغلافها الجوي حوالي 130طنا من الأتربة المتطايرة.
و في الوقت الذي كان ينتظر فيه الآسفيونمن المنتخبين و المسئولين المحليين وصناع القرارعلى الصعيد الوطني القيام بمبادرات شجاعة لإعادة الاعتبارالتاريخي للمدينة وإخراجها من العزلة و التهميش ومن الوضع الكارثي البيئي و الصحي الذي تعيشه،عبر تفعيل مخطط المغرب الأخضروالتركيز على الصناعات الايكولوجية قصد التقليص من الأضرارالغازية الملوثة الموجودة و إعادة معالجة النفايات السائلة و الصلبة وخلق مناطق صناعية بعيدة عن المدينة و إنشاء مناطق و أحزمة خضراءو تشييد مستشفى كبير يستجيب لتطلعات الساكنة اعتمادا على مقاربات تشاركية مع المكتب الشريف للفوسفاط و مختلف المتدخلين و الفاعلين المحليين و الوطنيين للتقليص من آثار الغازات السامة ،كانحظ هذه المدينة المغبونة مرة أخرى، أن دشن بها أخطر مشروع صناعي في المملكة ألا و هو المحطة الحرارية لتوليد الطاقة الكهربائية التي ستشرع في الاشتغال سنة2017و التي ستزيد، دون شك ،في خنق المدينة أكثر و ستزيد في القضاء على ما تبقى من الثروة السمكية ،حيث من المحتمل أن تعتمد هذه المحطة على امتصاص حوالي 400ألف متر مكعب من المياه البحرية يوميا لتبريد آلات تشغيلهاليتم طرحها بعد ذلك في البحر محملة بإشعاعات ملوثة خطيرة ، كما أن اشتغالها بالفحم الحجري لانتاج الطاقة الكهربائية و احتراقه سيزيد لا محالة من الانبعاثات الغازية المحملة بثاني أوكسيد الكاربون و الكبريت.
و رغم المعارضة التي أبداها بعض منتخبيي المدينة و الإقليم في المجالس السابقة ضد انشاء هذه المحطة ، فإنها لا تعدو أن تكون معارضة محتشمة مقارنة مع الرفض الكلي الذي عبرت عنه الكثير من جمعيات المجتمع المدني الآسفي الغيور.
هذا هو حال مدينة آسفي اليوم، مدينة يبدو أنها لن تنال، قريبا، نصيبها من مخطط المغرب الأخضر و أنها ستبقى حقل تجارب كارثية و ضمن برامج المغربالأحمر الأخطر ،أضحت مدينة مخيفة تتكاثف في سمائها الغازات السامة و الأتربة و الغبار، و بتشييد المحطة الحرارية ستصبح أيضا مدينة الرماد ، تحولت من مدينة الأولياء و الصلحاء إلى مدينة تبحث عن الحكماء و العقلاءمن بني جلدتها الغيورين على تنميتها و على مستقبلها و مستقبل أبنائها،تحولت من الحاضرة التي كان يتهافت إليها الملوك و الأمراء والأولياء والزوار قصد العيش بين أهلها الكرماء في أمن و أمان إلى مدينة يتاجر بعض المسئولين في عقاراتها وخيراتها ضاربين عرض الحائط ماضيها العريق و حضارتها المتجدرة في أعماق التاريخ،تحولت من مدينة ديبلوماسية معروفة إلى مدينة منسية و معزولة . تحولت من مدينة البحارة الذين كانوامن علية أناسها يجوبون بأنفة سواحل المحيط الأطلسي طولا و عرضا و الآن أصبحوا من بؤسائها الذين غدروا في قوت يومهم، إذ لم تصمد قواربهم و مراكبهم أمام سيولالمركب الكيماوي القاتلة للقمة عيشهم، مدينة لو قدر لابن خلدون العيش، في هذا الزمان، بين أحضان أناسها و رأى ما يكابدون صحيا و اجتماعيا و وقف علىمختلف أشكال النهب التي تتعرض له خيراتها ، لسماها حاضرة الاحتضار عوض حاضرة المحيط الأطلسي.
المصدر : https://www.safinow.com/?p=87